كلاسكيات مصرية

الثلاثاء، 20 أبريل 2021

القاهرة عشق لاينتهى

إنها ليست نظرة فلسفية لقيمة الحياة عندى ، ولكن هى نظرة موضوعية لارتباطى بالأرض .. الموطن والأصل ، نظرة وثقتها حداثتى فى التذوق الفنى التى كانت منذ الصغر هوايتى ، هذا المزج الفريد بين التذوق والأصالة تغلغلا فى أعماق نفسى من خلال بيئة حاضنة لتاريخ عريق وحضارة إنسانية كبيرة ، كان له قيمته البالغة فى اقتفاء أثره فى أى شيئ بل وكل شيئ ، وهذا من حسن حظى أن مسقط الرأس كان فى منطقة باب الشعرية وتحديدا خلف أسوار القاهرة القديمة بحى الجمالية .. الجزء الأصيل من القاهرة المعزية تلك هى البقعة الغالية من أرض القاهرة صولجان الشرق ودرته ، والتى مازالت تحمل عبقا تاريخيا فريدا ، فعلى أرضها تدفقت أولى انفاسى ، وفى أجوائها كانت نشأة حياتى ، وفيها بلغت مرحلة طفولتى الأولى قبل ارتحالنا لمنطقة الظاهر بيبرس التى استكملت فيها النشأة والتربية ، وهى ليست ببعيدة عن الجمالية بل هى الامتداد الطبيعى لها ، فكانت تحمل نفس المعالم ونفس السمات . إننى سوف أكتب هنا عن تقديرالقيمة النفسية والاجتماعية للعيش فوق تراب هذا المكان وكيف تعمقت فى نفسى بكل مفرداتها مع توالى الأيام وانطوائها ، أنه ملتقى الزمان بالمكان مع النشأة ، ثم ذكريات جميلة وكثيرة كان لها تأثيرها على النفس مع معزوزة القلب ومعشوقة الفؤاد .. جامعة الفنون وحاضنة العصور والحضارات .. القاهرة المحروسة .. كنانة الله فوق أرضه ، كانت ولازالت تعتلى الربوة وتجلس فوق الحصيرة أميرة .. فاتنة .. ساحرة .. جميلة ، عاصمة للحب والإلهام ، وموطنا للإبداع والخيال .. ومهبط أنظار متشوقيها ، فمن لم يرها لم ير شيئا ، إنها أغنى المدن المصرية بالبشر الذين يتميزون بروحهم الشفافة ووجوهم السمراء وحياتهم البسيطة ، الحياة على بساطها لها لون آخر .. وطعم آخر .. ومذاق آخر ، الفن فيها له ملامح ذاتية يعرفها القاصى والدانى ، ويقصدها دائما محترفو الفنون التشكيلية ليس فى مصر فحسب وإنما فى العالم كله ، كما يعشقها متذوقو الفن الراقى ويترددون عليها بصفة دائمة ، إنها ملتقى الآثار الإسلامية والقبطية والفرعونية ، حيث كان لها نصيب وافر من قيمة هذه الفنون على بساطها ، لتحولها إلى متاحف مفتوحة روعتها تعدت أى فكر يصوره الخيال لتكون على أرض الواقع آيات من جمال صنعته أجيال وبأيد مصرية صميمة . فالحضارة الإنسانية توجد هنا فى آثارها التى شكلت شوارعها وأحيائها فأصبحت قيمتها أكبر من حجمها بكثير ، وبما أن القاهرة عرفت قدر نفسها عرفت أيضا كيف تحافظ على أصالتها بمجابهتها لنوائب الدهر وتقلبات الزمن رافضة فى ذلك غبار أعوام طويلة مضت استطاعت خلالها أن تنفض عن نفسها تجاعيد العمر فتناغمت مع طبيعتها التى أذهلت كل عقل ، والتاريخ أصّلها ولم يبرحها بعد بل ظل ينبض بالحياة فيها عبر أنشودة حب تحمل بين طياتها عبقا خاصا يختلط فيه سحر المكان باجترار الزمان ، وحتى ما تم تخطيطه لها فى المستقبل هى الأخرى حريصة كل الحرص على الاحتفاظ ببريقها كى تبقى وتظل محتفظة بفخامة العمارة الإسلامية بها منفردة دون سواها ، حكايات ترويها الحجارة التى شهدت عقودا طويلة ظلت عامرة بالتجارة والصناعة ، وهذا جعل المراكز التجارية الكبيرة التى أنشأها الفاطميون عبارة عن تحف معمارية نادرة لتبقى مصر الإسلامية الفاطمية هى الأعلى قدرا من العصور التى تلتها ، فبالرغم من أنها هى التى مهدت الطريق لمصرالأيوبية والمملوكية والعثمانية عبر شارع واحد فى هذا المكان ، هو شارع المعز لدين الله الفاطمى الذى ضم فى جنباته ملامح كل هذه العصور فى بوتقة واحدة ، إلا أن آثار الفاطميين ظلت هى المميزة والأكثر قدرا والأفضل فى إفراد أدق تفاصيلها للدرجة التى يستطيع معها أى إنسان وبكل بساطة أن يتعرف على هويتها الموثقة فى شوارع وأذقة القاهرة القديمة بروعة مساجدها بقبابها المزخرفة ومآذنها الممشوقة الممتدة إلى عنان السماء ، إنه تاريخ إسلامى حافل وقديم يرويه لنا عمر أمتدت سنواته إلى ما يتعدى الثمانمائة عام . 





وهنا تعالوا لنقف وقفة بسيطة عند عصر الدولة الفاطمية حيث وجدت نفسى شغوفا بمعرفة كل كبيرة وصغيرة تميزت بها هذه الحقبة التاريخية من تاريخ مصر .. قاهرة المعز .. المليئة والزاخرة بمقومات حكم قامت على التقرب من المصريين بابتداع أساليب جديدة لم يسبقهم فيها أحد ، وهى مابقيت آثارها موجودة فى نفوس وعادات وتقاليد المصريين حتى يومنا هذا . فلو عدنا للوراء منذ قيام الدولة الفاطمية فى مصر نجد أن القاهرة تأسست فى عهد الخليفة المعز لدين الله الفاطمى بتوجيهاته للقائد جوهر الصقلى حيث عهد إليه تخطيط وإنشاء وبناء مدينة جديدة لتكون بمثابة مقر إقامة ومركز قوة لهم  بعيدا عن العواصم الإدارية السابقة التى بناها ابن طولون والعباسيون ، فتم تحديد المكان الجديد وتم اختيار شمال شرق الفسطاط كمقر جديد ثم شرع فى بناء المدينة التى اسماها بـ المعزية القاهرة حيث تم بناء القصور الكبرى فى أوسطها والتي ضمت الخلفاء وأسرهم ومؤسسات الدولة ، كما تم الانتهاء من القصرين الرئيسيين: الأكبر منهما  شرقا والأخر غربا ، وبينها ساحة عرفت باسم بين القصرين . ثم أسس بعد ذلك مسجد المدينة الرئيسي ، وهو الجامع الأزهر ، باعتباره مسجد الجمعة وكمركز للتعليم والتعلم ، استتبت الدولة الفاطمية بوصول المعز ومعه جهازه الإدارى للخلافة الفاطمية إلى القاهرة ، ثم عهد للوزير الأرمن بدر الجمالى بناء أسوار القاهرة وبوابات ضخمة بالحجر ، أما الشارع الرئيسي في هذه المدينة عرف حتى اليوم بشارع المعز لدين الله أو شارع المعز ، ولكن يشار إليه تاريخيا باسم القصبة ويمتد من باب الفتوح أحد بوابتى المدينة الشمالية إلى باب زويلة البوابة الجنوبية مارا بين القصور عبر القصرين الرئيسيين . فأضحت القاهرة مدينة ملكية مغلقة أمام عامة الناس لايسكنها سوى عائلة الخليفة ومسئولى الدولة وأفواج الجيش وغيرهم من الأشخاص الضروريين لعمليات النظام . لذلك ظلت الفسطاط لبعض من الوقت المركز الاقتصادي والحضرى الرئيسى لمصر حتى وقت لاحق ، ولكن عندما نمت القاهرة واستوعبت المدن المحلية الأخرى بما في ذلك الفسطاط ، أصبحت القاهرة المعزية هى المدينة الرئيسية والعاصمة الكبرى لمصر ، مازالت بقاياها تنبض بالحياة حتى الأن كجزء عزيز ونموذج فريد من القاهرة الكبرى .


 

أسمحوا لى بأن أتجول بكم فى هذا الشارع العريق حتى يلامسنا إحساس واحد ، وسوف أنقل لكم نقلا أمينا لكل صغيرة وكبيرة ، حتى تكون المعايشة وتوارد الخواطر بيننا كبيرا ، فعندما أسير فيه أشعر بأن الزمن يرجع بنا لأيامهم .. أيام الفاطميين أنفسهم وكأنهم يسيرون معك فيه ، وتشعر أيضا بعبق ورهبة التاريخ كما لو إنك عدت ثمانية قرون إلى الوراء ، فتجد نفسك تعيش أجواء المكان والزمان معا ، وكلما تمكن بداخلك هذا الإحساس يتملكك الشعور بالراحة والغبطة والسرور وكأنك أصبحت جزءا من هذا التاريخ بل ومنغمسا فيه ولاتحب أن تغادره أبدا ، وأنك إذا سرت فيه لابد وأن تتمه ، وما أن تتمه حتى تحب أن تعيده  . والأن سنبدأ هذه الجولة الشيقة فى أعماق التاريخ لننقب عن نفائثها وماأكثرها نفائث ، فحينما تدخل من باب زويلة قاصدا شمال القاهرة المعزية تكون قد جئت من جنوبها ، أو بمحاذاة أسوارها الجنوبية من الخارج غربا أو شرقا ، فلو أنت آت من الغرب تكون قد جئت من شارع محمد على والدرب الأحمر ومنطقة تحت الربع  ، أما إن كان من جهة الشرق تكون قد أتيت من القلعة ومنطقة أثر النبى ، وأما لو كان من جهة الجنوب تكون قد مررت على الخيامية والنحاسين والمغربلين وسوق السلاح . كنت دائما أبدأ تجوالى فى القاهرة القديمة من جنوبها لأنه بمجرد دخولى من باب زويلة بمأذنتيها الشامختين ينتابنى مباشرة وبشدة الإحساس بعودة الزمان إلى الوراء وهو إحساس يبدو رائعا أن تشعر به عند بداية الجولة ، فحينما يظهر لك هذا المشهد المهيب وأنت واقف أمام أعرق أبواب القاهرة قاطبة ينبهك المكان أنك انتقلت إلى عصر آخر وأنك على مقربة من هذا التاريخ العظيم وسوف تستغرقه بل وتعيش فيه لحظات كأنها الحقيقة ، فحينئذ يتبادر فى ذهنى سؤالا كنت أسأله لنفسى كثيرا ، كيف جابهت هذه البوابة الزمن بشموخها وعظمة بنائها ولازالت متماسكة بهذه الروعة وبهذا الإبهار ؟ وكيف احتضنت هذه الروائع من الأثار الفاطمية وضمتها فى أحيائها القديمة بموطنها الأصلى وحافظت عليها ؟ حتى أصبحت الأن شاهدة على عصرها كلوحات نقشها الزمن الجميل بتفرد وعبق ليشعر بتجلياتها كل من دخل فيها وعاش تفصيلاتها الدقيقة بكل ماتنطوى عليه من سحر وخفاء . وهذه حقيقة ستتأكد منها أثناء سيرك ومرورك لشارع المعز لدين الله الفاطمى ، حيث تجد نفسك وجها لوجه أمام أهم مافى فن العمارة الإسلامية فى القرون الوسطى ، وبالطبع سيتولد بداخلك الفضول ومحاولة الإقتراب من كل قطعة حجر موجودة فى هذا الشارع لتتفحصها ، فالشارع ممتد ويعتبر من أطول شوارع القاهرة المعزية ويضم فى جنباته الكثير من مقتنيات وذخائر فن العمارة الإسلامية الموثقة ، إن أهم مايستلفت نظرك فيه أيضا هى المنطقة التى تقع وسط حدودها جنوبا وشمالا والمسماة " بين القصرين " التى كانت فيما مضى قصورا للخلفاء والأمراء ، الأن هى مجرد اسم فقط حيث اعتراها الكثير من التغيير ، وأصبحت تحتوى على العديد من الدروب والأذقة والحارات والأسواق والمساجد والحمامات والخانات والأسبلة التى صبت فيها بفعل الزمن وتداوله . ياله من تاريخ حافل به من الكنوز مايجعل هذا الفضول واجبا وملحا لهذه المبانى العتيقة التى تراكم عليها تاريخ أمة وتحكيه لنا فى صمت تتابع أجيال من بنائين عظام لعصور متعاقبة شيدوا مجد مصر وعراقتها وفنونها الساحرة فى فن المعمار التى أقل ماتوصف به أنها آية من جمال .. حكايات تلامس التناغم العميق بين البشر مع تلك القباب والمآذن التى تعلو السماء فى تضرع مهيب لله سبحانه وتعالى ، والداخل لهذه المساجد يشعر بذلك جيدا ، حيث يتسرب إلى قلبه وفكره اطمئنان وسكينة نادرين ، توحى بهما روعة التصميم وجمال الزخرفة . والمار هنا لاتجتذبه المساجد فقط ، بل البيوت والحوانيت والدكاكين ، حتى يشعر بأنه قد جاء إليه كى لايغادره ، فلكل درب متفرع من هذا الشارع يحتضن أثرا ، وله قصة تدور فيها حكايات قد يغلب على معظمها الخرافات والأساطير المستحبة أى التى تأتنس لها النفس وتتوق لسماعها مرات ومرات ، ولهذا فإن جولتنا فى هذا المكان كان لها مهابتها ولها مايميزها ، على الأقل إحساسنا بمحاكاة هذه الأحجارالتى ليست مجرد أحجار مرصوصة ، أو نقوش تركها الزمن ، إنما هى منظومة تروى لنا وقائع تمت على هذه الأرض يوما ما ، التاريخ يحكيها .. والحكايات تتلقفها وتزيد عليها بروايات لاتنتهى تمجد الأصالة وروعة من عاشوا عليها يوما ما ، لذلك ستبقى الحقيقة دوما فى علم الله ، أنا عن نفسى أقف على حدود التاريخ .. التاريخ الذى يأتى هنا ويفتح لنا صفحاته ، ليفتش عن سر هذه البقعة الملكية التى عاشت خلف هذه الأسوار المشيدة والتى كانت تغلق أبوابها ليلا على ستر الناس واطمئنانهم وحبهم للمدينة التى شيدت عملاقة ، وأخذت نصيبها الوافر من الفن الراقى  حتى أصبحت آية للفن الإسلامى بكل مافيه من روائع وجماليات وروحانيات . يبدو أننا قد بلغنا بالمسير مداه .. متعة مابعدها متعة ، فإذا ماوجدت تفريعتين فى أخر شارع المعز شمالا نكون قد أوشكنا على بلوغه حيث بدا لأنظارنا أسوار القاهرة الشمالية وظهور باب الفتوح إذا مامرقت فيه إلى نهايته ، أما إذا سلكت التفريعة الأخرى ستخرج من الباب الأخر وهو باب النصر . إنك لن تشعر بالوقت ولاطول الطريق فأنت هنا قد مررت على القاهرة القديمة وعشت ملامحها فى موطنها الأصلى وتعرفت على عصارة فنها وفكر أجيالها المتعاقبة ، وستجد نفسك بعد هذه الجولة الأكثر من رائعة أنه اعتملت بداخلك مجموعة من المشاعر الفياضة تجتاحك كما تجتاح أى إنسان يعرف قدر هذا المكان بكل مااشتمل عليه من كنوز ومقتنيات .




إن القاهرة المعزية منذ أن أنشئت وحتى أصبحت مدينة الألف مأذنة ، تؤكد لنا يوما بعد يوم جدارتها  بأنها العاصمة التاريخية والأبدية لمصر ، ولاعجب فى هذا فقد عانت كثيرا بسبب هذا التميز حيث صارت مطمعا لكثير من الدول الأجنبية الكبرى التى أرادت أن تستولى عليها وتستعمرها لمعرفتهم المسبقة بقيمتها الغالية ، إنهم أرادوا أن يستحوذوا على آثارها وامتلاك كنوزها المعرفية والفكرية والأدبية والفنية ، فهم يعلمون جيدا عمق هويتها العريقة وتاريخها المشرف ، ولكن شجاعة وجسارة ابنائها المصريين حالت دون ذلك منذ جذور تاريخها التليد ، ولو ذكرنا سنذكر مدينة منف حاضرة مصر الفرعونية القديمة وملتقى الشمال والجنوب من أرض الوادى وماتلاها من أسر ، ثم عصور سحيقة مضت قبل دخولها الإسلام : مصر الإخمينية ، مصر اليونانية الرومانية ، مصرالمسيحية ، إلى مصر الإسلامية الذى جاء بقدوم عمرو بن العاص لمصر وبنائه مدينة الفسطاط وماتلاها من حاضرتين إسلاميتين : العسكر والقطائع واللتان كانتا امتدادا وتأكيدا لسابقتهما فكانت النواة الأولى لمدينة القاهرة ، ثم توالت عليها عصور مابين قوة وضعف ، مذ حكم الخلفاء الراشدين ، الدولة الأموية ، الدولة العباسية ، الحكم الطولونى ، الحكم العباسى مرة أخرى ، الاخشيدى ، الفاطمى ، العصر الأيوبى ، ثم المملوكى بدولتيه المماليك البحرية الصالحية والمماليك الجراكسة البرجية ، ثم الحكم العثمانى وبعد ذلك الدولة الحديثة التى أسسها محمد على وحكمها حكما شبه مطلق تعاقب عليها ابناؤه بعد وفاته حتى قيام ثورة يوليو عام 1952 .. فالمثير هنا أن هذه الدول تعاقبت وانمحت لتبقى مدينة القاهرة هى العاصمة الأبدية لمصر منذ إنشائها وستبقى إلى أن يشاء الله . لذلك أغرتنى فكرة القيام بدراستها دراسة تثقيفية وخاصة أن تاريخها الحافل بالبطولات شجعنى أن أتوقف عندها كثيرا بالبحث والدراسة الجادة .. العميقة والمتأنية ، وكان حقيقة حظى وافرا فى جمع المعلومات بسهولة ويسر وهذا يدعو للفخر بأن صفحات هذا التاريخ مشرف للغاية ، وخاصة عندما وصلت لفترة حكم الفاطميين لمصر حيث وفرة المراجع التى تناولت هذه الحقبة تحديدا نظرا لأنها فترة محببة لقلوب المصريين لما تنطوى عليه من عادات وتقاليد أصبحت متوارثة فى الأجيال التالية . وهذا شجعنى أكثر وجعلنى لا أكتفى بقراءة المراجع فقط بل شغفت بزيارة المتاحف والمساجد القديمة والقصور الإسلامية الأكثر روعة لأسرة محمد على للمعايشة والرؤية ، وكان الأهم من كل هذا هو زيارة المتاحف المفتوحة بطبيعتها فى شوارع القاهرة القديمة المتاحة فى أى وقت أشاء للتعرف على أجمل وأهم هذه الآثار الشاهدة على هذا العصر الذهبى فى فنون العمارة الإسلامية وماتضمنته من أسبلة وماتبقى من مشربيات الأربيسك المدعم بالخشب المطرز بالنحاس المنقوش والمُطعم بالزجاج المعشق بكل ألوانه الزاهية الجميلة ، والتى على ماتبدو من آثارها أنها كانت سائدة بكثرة فى جميع منازل وشوارع وحوارى وأذقة وعطفات التى كانت منتشرة فى ذلك الوقت بالقاهرة القديمة ، وأيضا لأتفحص برؤى العين أهم مايميز طرازات العمارة الفاطمية التى تجلت فى مبانيها القائمة فى المساجد والمشاهد والأضرحة والأسوار والأبراج وغيرها من العناصر المعمارية والفنية والتى ظهرت فى استخدام الأحجار بشكل أساسى في المنشآت الدينية والحربية والأضرحة والتى بفضلها أحدثت تطورا كبيرا فى عمارة المساجد الفاطمية أهمها أن بناءها تميز بالمتانة والفخامة والصلابة ، وليس معنى ذلك أن الطراز الفاطمي لم يستخدم الآجر في البناء ، والآجر هو نوع من الطين اللبن المحروق ، فقد شُيدت قاهرة جوهر الصقلى بالآجر ، كما استُخدم أيضا في بناء القباب والعقود والأسقف والجوانب الداخلية للحوائط ، على أن العمارة الفاطمية نوعت أيضا فى استخدام الأحجار والآجر معا فى بناء بعض المساجد مثل جامع الحاكم بأمر الله ، وكذلك استخدمت العوارض الخشبية فى تدعيم الجدران والأعمدة السابحة فى تثبيت الأسوار الحربية . وقد اعتنى المعمار الفاطمى عناية كبيرة بصقل الأحجار ونحتها وتنسيقها في البناء مما ساعد كثيرا فى الاستغناء عن الأكسية الجصية ، وساعده أيضا على تنفيذ الزخارف عليها بطريقة الحفر أو النحت المباشر ، مثال ذلك واجهات جامع الأقمر والصالح طلائع وكذلك أسوار وأبواب القاهرة .  كما شاع فى العمائر الفاطمية استخدام الصَّنْجات المعشقة ــ وهى قطع من الحجارة صغيرة ــ فى مصر لأول مرة حيث جاء استخدامها فى أبواب القاهرة الفاطمية : باب النصر وباب الفتوح وباب زويلة. وقد استخدم المعمار الفاطمي تلك الصنجات في تكوين إطارات عقود فتحات الأبواب، وكذلك في الأعتاب ، ثم تطورت بعد ذلك فى جامع الأقمر والصالح طلائع ، حيث اتخذت الصنجات المعشقة مظهرا زخرفيا مع احتفاظها بوظيفتها المعمارية . كذلك امتازت عمارة المساجد الفاطمية أيضا بالتطور الكبير الذي أُدخل على طريقة استخدام الروافع حيث استخدم المعمار الفاطمى الانحدارات التى تعلو تيجان الأعمدة ، وبدأ من هنا ولأول مرة تُصنع الأعمدة خصيصا للمساجد بعد أن كانت تُنقل من عمائر قديمة . كما استخدم أيضا الدعائم والأكتاف في بعض المساجد منها جامع الحاكم بأمر الله الذى قيل إنه شُيد على غرار جامع ابن طولون . كما شاعت في الطراز المعماري الفاطمي أنواع عديدة من العقود منها العقد المقوّس والمدبَّب والمنفرج والمنبطح والمحدب والمنكسر ونصف الدائرى ومن أشهر العقود انتشارا فى العمارة الفاطمية العقود الفارسية .



كذلك عرفت العمائر الدينية في الطراز الفاطمي أنواعا عديدة من مخططات المساجد منها جامع الأزهر الذي ظهرت فيه لأول مرة ظاهرة تعدد الصحون ، حيث جاء تكوينه من صحن وثلاثة أروقة ، ثم جامع الحاكم الذى خُطط على هيئة صحن وأربع ظلات أكبرها ظلة القبلة ، هذا بخلاف التخطيطات الأخرى التي ظهرت في جامع الأقمر والصالح طلائع ، كذلك شاع في طراز العمائر الفاطمية الدينية والحربية استخدام التغطيات المقببة ، فاستخدمت القباب لأول مرة في مصر على المحراب والصحون وفى تغطية ظلة القبلة كما هو الحال فى جامع الأقمر ، وأيضا ظاهرة تعدد المحاريب سواء المسطحة منها كما هو الحال في جامع ابن طولون أو المجوفة التى مثل مشهد السيدة رقية بالقاهرة ، إلا أن المحاريب الفاطمية شهدت تطورا كبيرا مثل محراب جامع الجيوشى بالقاهرة ، كما شاع أيضا في طراز العمائر الفاطمية استخدام المقرنصات ــ حليات معمارية تزين بواطن العقود أو واجهاتها ــ بأشكال متطورة وأصبحت التركيبات المقرنصة أكثر تعقيدا تنم عن مهارة واتقان صانعيها ، أهمها على الإطلاق النمط المميز الذى احتفظت به معظم المآذن الفاطمية والتى تجلت فى جامعى الحاكم بأمر الله والجيوشي، حيث ظهر بهما لأول مرة في تاريخ العمارة الإسلامية الأفاريز المزدوجة من المقرنصات التي تدور حول الطابق الأول من بناء المئذنة . متعة مابعدها متعة ولضيق المقام هنا فإننى تناولت القليل من سمات العمارة الفاطمية وإن كانت أبرزها ، إلا أن هناك الكثير من فنيات ميزت هذا العصر تحتاج لدراسة أكثر ولتعمق أكبر .





أما عن رومانسية عشق الأماكن والإرتباط بها سأتحدث ولاحرج ، أن ارتباطى بالقاهرة الفاطمية يكون أكثر إلحاحا وأشد وجدا وله فى النفس منسربا كلما اقترب شهر رمضان ودنا ، ربما تعود فكرة ارتباط رمضان بأيام زمان وحبى لهذه الأماكن هم الفاطميون أنفسهم عندما رسخوا بعض العادات والتقاليد التى وجدت فى نفوس المصريين هوى ، حيث نجحوا فى ذلك وإلى حد كبير فى التقرب من ودهم ونيل رضاهم . وتعتبر أهم هذه العادات التى ارتبطت فى ذهنى ارتباطا وثيقا وموضوعيا هى تلك التى تجلت فى شهر رمضان ولازلنا هنا فى مصر حريصين على إقامتها واستمرارها حتى اليوم . رغم أن هذا التقرب وهذا الود كان له هدف خبيث أخر هو فرض المذهب الشيعى واستتبابه فى مصر ، وهو ماكان يختلف اختلافا كليا وجزئيا عن نهج المصريين فى عقيدتهم الدينية والذى لايخرج عن المذاهب السنية الثلاثة . ولما عرفوا أن المصريين متدينون بطبيعتهم السنية الوسطية القائمة على الأخد بالكتاب والسنة فى منهجهم وأنها تمثل إلى حد كبير عقيدتهم وفقههم وسلوكم ‏، لم يتدخلوا فى نهج الأزهر الشريف الذى شيدوه بهدف فرض مذهبهم الشيعى فى الدين رغم تشجيعهم للإقبال على حلقات مجالس العلم والتعلم التى أقاموها فيه ، فقد حاولوا ولم يفلحوا حتى أصبح الأزهر الشريف منبرا للوسطية والإعتدال ومن كُبريات المدارس ‏العِلمية في حواضر العالم الإسلامى ، إذ اعُتمدت الدراسة فيه على تحريره وتنقيحه من الفكر الشيعى فى وجودهم ، بل وتخريج العلماء الأجلاء المعتدلين فى الفكر والفهم ، كما جسدت وسطيته فى أوامره ونواهيه ، وقيمه ومقاصده فى الإسلام تجسيدا فعالا .‏  ولما أحسوا بأنه لامناص لهم وأن الإختلاف المذهبى فى العقيدة بينهما كبير وسيحول دون تنفيذ أهدافهم ، وأن بأس المصريين شديد فى تمسكهم بقيمهم الدينية ، جاء حرصهم على المبالغة في كل شيء وفى أى شيئ دون المساس بالدين وفرائضه  كى لاتتضارب المصالح وألا تضطرب العلاقات بينهم وتُحدث فجوجا عميقة لاطائل منها فى التوجه الدينى شكلا وموضوعا . هكذا كان يفكر الفاطميون فى خلق كل مايمكّنهم التقرب به من المصريين وفكرهم بأية طريقة وبأى أسلوب ، لذلك بالغوا فى احتفالاتهم بشهر رمضان بشكل لم نسمع به من قبل ولا من بعد ، فابتدعوا من المظاهر ما لم تكن لها أصل فى مصر الإسلامية من قبل ، حيث فاجأوا بها المصريين أنفسهم حين حولوا رمضان إلى كرنفال يمتد طوال هذا الشهر فجعلوه وكأنه سلسلة أعياد يومية يتلو بعضها بعضا ، بدءا من الخليفة الذى عهد للقضاة قبيل حلول شهر رمضان بالطواف على جميع مساجد القاهرة وباقي الأقاليم لتفقد ماتم إجراؤه فيها من إصلاح وفرش وتعليق المسارج والقناديل حتى يوقد بها في إحياء ليالى رمضان ، وكان يفرش بعشر طبقات من الحصير الملون بعضها فوق بعض . ثم قيام الدولة في ذلك الوقت بتخصيص مبلغ من المال لشراء البخور الهندي والكافور والمسك الذي يصرف لتلك المساجد في شهر الصوم . كما كانت تقام عدد من الأسواق التجارية خلال هذا الشهر الكريم منها : "سوق الشماعين بالنحاسين" والذى كان يعد من أهم الأسواق خلال شهر رمضان الذى كان يمثل موسما عظيما لشراء الشموع الموكبية التي تزن الواحدة منها "عشرة أرطال". أما عن ليلة الرؤية واستقبال شهر رمضان فكان له تقاليد رسمية تبدأ بخروج الخليفة في مهرجان إعلان حلول رمضان من باب الذهب "أحد أبواب القصر الفاطمي"، متحليا بملابسه الفخمة وحوله الوزراء بملابسهم المزركشة وخيولهم بسروجها المذهبة ، وفي أيديهم الرماح والأسلحة المطعمة بالذهب والفضة والأعلام الحريرية الملونة، وأمامهم الجنود تتقدمهم الموسيقى ، ويسير في هذا الاحتفال التجار صانعو المعادن والصاغة ، وغيرهم الذين كانوا يتسابقون في إقامة مختلف أنواع الزينة على حوانيتهم فتبدو الشوارع والطرقات القاهرة في أبهى زينة . وكان موكب الخليفة يبدأ من "بين القصرين"، بشارع المعز حاليا ثم يسير في منطقة الجمالية حتى يخرج من باب الفتوح "أحد أبواب سور القاهرة الشمالية"، ثم يدخل من باب النصر عائدًا إلى باب الذهب بالقصر، وفي أثناء الطريق توزع الصدقات على الفقراء، وحينما يعود إلى القصر يستقبله المقرئون بتلاوة القرآن في مدخل القصر ودهاليزه ، حتى يصل إلى خزانة الكسوة الخاصة فيغير ملابسه ويرسل إلى كل أمير في دولته طبقا من الفضة الخالصة مملؤا بجميع انواع الحلوى، تتوسطه صرة من الدنانير الذهبية ، كما كان يقوم بتوزيع الكسوة والصدقات والبخور وأعواد المسك على الموظفين والفقراء ، ثم يتوجه لزيارة قبور آبائه حسب عاداته ، وعقب انتهائه من ذلك يأمر بأن يكتب إلى الولاة والنواب بحلول شهر رمضان . ثم يأمر بإعداد موائد الرحمن ، فالخليفة المعز لدين الله الفاطمى كان هو أول من أقامها لكى يفطر عليها أهل جامع عمرو بن العاص، وكان يجود فى رمضان أضعاف أضعاف ماكان يجود به فى غيره ، فكان يأمر بخروج قدرا كبيرا من جميع ألوان الطعام من قصره لتوزع على الفقراء . كما جاء فى الأثر أيضا أن بداية استخدام فانوس رمضان فى مصر جاء بالمصادفة فقد كانت لحظة دخول الخليفة الفاطمى المعز لدين الله للقاهرة ليلا وكان يوم الخامس من رمضان ، فأمر القائد جوهر الصقلى الناس بأن يخرجوا لاستقبال الخليفة ، فما كان من المصريين أنهم جاءوا بالشموع وثبتوها على قاعدة من الخشب وأحاطوها بالجلد الرقيق لإنارة الطريق أمامه ، فأعجب الخليفة الفاطمى بهذا الاستقبال ، ومن هذه اللحظة اعتمدت الفوانيس كتقليد رمضانى ، ويقال أيضا إن تجمعات الأطفال للعب والمرح بالفوانيس بدأت فى عهد الخليفة الفاطمى العاضد الذى كان يخرج بنفسه لاستطلاع رؤية هلال رمضان ، وكان الأطفال يخرجون معه لإنارة الطريق بالفوانيس مرددين بعض الأغنيات فرحا بقدوم الشهر الكريم . وهناك أيضا مصادر تشير إلى أن مهنة المسحراتى بمفهومها الحالى أعتمدت فى عهد الدولة الفاطمية كمهنة رسمية حيث كان المسحراتى يطوف فى الشوارع ليلا ليوقظ الناس وهو ينادى "يا أهل الله قوموا تسحروا" . كما عُرف فى الأثر أن الخليفة الفاطمى كان يصلي أيام الجمعة الثلاثة فى رمضان، الثانية والثالثة والرابعة على الترتيب ، يصلى الجمعة الثانية في جامع "الحاكم بأمر الله"، الثالثة في الجامع الأزهر، أما الرابعة والتى تعرف بالجمعة اليتيمة كان يؤديها في جامع "عمرو بن العاص"، وكان حريصا أن يصرف من خزانة التوابل ماء الورد والعود لبخور موكبه ، وعقب صلاة الجمعة الأخيرة يذاع بلاغ رسمي كان يعرف "بسجل البشارة"، ومع ختام شهر رمضان وفى آخر ليلة منه كان القراء والمنشدون يحيونها في "القصر الشرقي الكبير" وكان الخليفة يستمع لهم من خلف ستار، وفي نهاية السهرة ينثر على الحاضرين دنانير الذهب ، وماأن تختم الليلة الأخيرة من رمضان ، تبدأ مراسم وطقوس الإحتفاء بليلة العيد وقد حرص عليها تقريبا كل الخلفاء الفاطميين التى كان يتم أحياؤها بتهليل وتكبير المؤذنين وإنشادهم بأدعية صوفية إلى أن ينثر عليهم الخليفة من الشرفة الدنانير والدراهم كعيدية ، وتوزع عليهم أطباق القطائف مع الحلوى وخُلع العيد ، فإذا ما انتهى مجلس المقرئين والخطباء من وصلتهم الأولى ، انتقل الخليفة إلى قاعة الذهب فيجلس في الديوان وعلى يمينه الوزير، ثم يجلس بعده الأمراء بعد أداء التحية كل في المكان المخصص له ، ويتبعهم الرسل الوافدون من جميع الأقاليم لتقديم التهنئة والهدايا ، ثم يعاود المقرئون قراءة آيات من القرآن الكريم ويواصل الخطباء كلماتهم عن مباهج استقبال العيد ، أثناء ذلك يتم تقديم الأطعمة وكان يطلق على تلك الموائد اسم "الأسمطة" فكانت تمد وتعد فيها كل مالذ وطاب من كافة الأطعمة بكافة أشكالها وألوانها والتى لايمكن حصرها من كثرتها . وقد أشارت بعض المصادر أن السماط كان يقام فى يوم عيد الفطر مرتين ، الأول منهما يتم إعداده قبيل صلاة العيد بحضور وزراء الخليفة ورجال الدولة الكبار ، ثم يمتد السهر إلى الهزيع من الليل . وفى صبيحة يوم العيد يخرج الخليفة للصلاة والاحتفال بقدومه فى مواكب غاية في الأبهة والفخامة ، يحيط بها العسكر وفرق الموسيقى والخيالة ، وبعد صلاة العيد مباشرة يُمد السماط الآخر للضيوف من كافة طبقات الشعب خاصة وعامة ويظل ممتدا حتى صلاة ظهر يوم العيد . وهذا السماط من الفضة يطلق عليه اسم "المدورة" وهى تضم ولائم من أطعمة شتى موضوعة فى أوان كثيرة من الفضة والذهب والصيني ، فى مائدة كبيرة يوضع فى وسط هذا السماط أطباق كبيرة الحجم عليها شواء الخراف ، وعدد كبير من الدجاج والحمام ، بجانب أنواع كثيرة من الطعام والحلوى ، تقدم للناس فى حضور الخليفة .












ياله من ارتباط جميل حينما تهفو النفس وتتوق وتنشط الذاكرة وتستدر كل ذكريات أيام وليالى رمضان الماضية بكل لهفة وشوق وحنين ، نتمنى من قلوبنا أن تعود لنا أو تعود بنا للزمن الجميل كى نتذكر زمن الطفولة وعفوية التصرفات التى حُفرت فى ذاكرتنا وخاصة تلك التى عشناها مع الأهل والأحباب الذين رحلوا عنا وغادرونا وكانت حياتنا معهم تتسم بالحب والبساطة والمواقف الجميلة وحكايات لاتنسى ، لذلك ارتبط شهر رمضان نفسه فى نفوسنا ووجداننا بكل ماهو قديم . إن عبق الماضى وحكاوى رمضان وذكرياته مازالت وستبقى تفيض علينا وتداعب مخيلتنا بسحر نسماته وجمال نفحاته التى يكثر فيه الذكر والسهر ، ويحلو فى لياليه اللمة والسمر وجمال وقت السحر فلا تعرف ليله من نهاره ولانهاره من ليله ، من المؤكد أن رمضان هو الذى جعلنا نعيش هذه المنظومة الفكرية الجميلة من خلال عاداته وتقاليده التى رسخها الفاطميون فى نفوسنا حتى شكلت أطيافا وجدانية ارتبطت بأذهاننا بأيام وليالى زمان . 





هنا عشت المكان واستوحيت الزمان فكان الربط بينهما فى وجدانى وإحياؤه فى نفسى ملحمة حب كانت تدفعنى كثيرا أن أسير لها فى مسافات طويلة سيرا على الأقدام لبلوغ أماكنها كى أراها واستمتع بها كما هى ، وكما تركتها الطبيعة فلاأشعر بطول مسافة ولاكم من الوقت استغرقه المسير ، فحين تبدأ أولى خطواتى كنت أنسى كل هموم الدنيا حتى أجد نفسى فرحا وينطلق خيالى سارحا ومعانقا لخصوصياتى الفكرية المرتبطة بهذه الأماكن كما هى مستقرة فى وجدانى ، وما أن أبلغها وتعانق عيونى كل مايصادفها من آثار اتمعن فيها وكأنى أزورها لأول مرة ، حتى أصبحت أعرف هوية المساجد من شكلها المعمارى ومن سمات عصر بنائها وروح فكره وروحانيته ، وكذلك المشربيات والمدارس والخانات ، منزل السحيمى والدرب الأصفر، منطقة خان الخليلى ، المشهد الحسينى وجامع الأزهر ، الغورية والموسكى ، تحت الربع والدرب الأحمر والخيامية والنحاسين والمغربلين والكحكيين وسوق السلاح وشارع القلعة ومنه لشارع الصليبة قلب القطائع الطولونية والشاهد على الآثار المملوكية ، فضلا عن وجود العديد من الحمامات والمقاهى والأسواق ، أماكن ميزت هذه العصور الإسلامية برهافة ذوقها وبراعة تصميمها ، عصور قدمت تحفا شهدت ثورة فى فن العمارة الإسلامية ، فالفنان المصرى أبان هذه العصور لم يكتف بالزخارف النباتية والهندسية فقط بل ظهرت زخرفات استمدت موضوعاتها من الحياة ، إنه الإنسان المصرى الفطرى البسيط  الذى جعل من تلك البقعة الغالية مضغة نابضة من الحضارة الإسلامية العريقة ، عالما من الخيال ، كعالم ألف ليلة وليلة ، وصدقونى ليس أجمل ولاأفضل ولاأحسن ولاأفصح من وصف أحجاره إلا أحجاره ، وليس أمتع من مشاهدة معالمه إلامعالمه ، إنها القاهرة الفاطمية .. المدينة المحصنة ، المدينة التى شهدت انطلاقة عمرانية معمارية جادة وضخمة بأسوارها وأبراجها وبواباتها الفخمة التى تركت بصمات العمائر فيها مايشهد به التطور الملحوظ فى علوم الهندسة والفنون المعمارية ، لذلك ستظل القاهرة أبد الدهر ملحمة نضال المصريين .. إطلالة حب وعشق عبر الزمان .

مع خالص تحيات : عصام


القاهرة فى إبريل 2021