كلاسكيات مصرية

الجمعة، 24 فبراير 2012

الرجل الذى فقد ظله



لاشك ان الهدف مما أكتبه يكشف درايتنا به ولنا تاريخ طويل فى تلك المؤسسة أعطانى الحق فى الحكم عليها ليس عن دراية فقط بل عن أفكار مدروسة ومجسدة ، المؤسسة عندى تمثل عالما من الفكر ، عايشته على مدى سنوات متباينة بزمن واحد ، وحكم واحد وشخص واحد .. ومفارقات ساخرة تمور فى داخلى وتثير الدهشة فى نفسى فهى خليط من كل شيئ يصعب تفسيره، لكن لماذا يتحول هذا الخليط الى غضب بداخلى ؟! إجابة صعبة السرد رغم وضوح كل ما يدور حولى ، إلا أن طريقته يكتنفها الغموض ، دائما ماكان يضفى عليها سياجا من اللامعقول أخذت تتأرجح طوال هذه السنوات التى عملت فيها تحت قيادته مابين الجموح والهدوء ، ومع هذا لم أجرؤ على الخروج من إطارها ، فقد كانت محاولاتى عديدة فى إحكام غضبى وثورتى الداخلية العنيفة التى كثيرا ماكانت تثور . طمست الأيام الهادئة ذلك الخيط الرفيع الذى أمددته كى أتعايش فى ظل الإحكام المطبق الذى كثيرا ماتصورت نهايته بأشكال عدة ، وكنت أمهل نفسى معه بين الجذب واللين وأتعجل مشهده فلم أكن أريد أن أحرم نفسى من مراقبة أفعاله وكنت ارتكن لخيالى فهو المعادل الموضوعى الذى كان يعوضنى عن كل ماأرفضه من واقع مرير لايتبدل لازلت أراه وفى حلقى مرارة وفى عينى نظرة الإحتقار لم أستطع أن ألغى ذلك التأثير ، حتى جاء التغيير وظننته تغييرا ففرحت .



تابعت أخبار الثورة منذ مهدها وكل المليونيات بكل مسمياتها ، أيام حاسمة وطويلة وأخبار وأحاديث لانعرف منها إلا القليل ولكن الحقيقة التى لم أستطع أن أبتعد عنها هى أنه لازال موجودا داخل المؤسسة لقد وضع نفسه فى بؤرة مشعة وبغيضة قدم فيها من التنازلات ماأصدم الجميع ، كان يتذرع بالوسائل وهى حجة الخائف أو العاجز، فكرت فى كل شيئ إلا ان أراه فى ذلك المكان الذى اعتاد وجوده فيه متخطيا حاجز السن ومنتهكا للقانون وفوق الاستثناء ، كانت وسائله سعيه الدءوب لاغتنام الفرص وتكبيل الكفاءات بتنظيم هيكلى مبرمج دقيق وقائم على تحقيق العلاقات التى تؤثر فى أطماعه ، كانت سياسته تنبع من سياسة النفس الطويل والسرية المحكمة المقرونة بالمصالح الشخصية الممنهجة ، وكانت تصادف هوى لدى الساسة وكبار رجال الدولة ومستميليه من العاملين فى الشأن المؤسسى للبناية العريقة صاحبة المجد التاريخى والريادة المتفردة المتخصصة ، كل ذلك كان يتم بهدوء التناول وحنكة التداول عبرالسنين الطوال .



إن الكتابة عندى تنبع دوما من فكرة لامن شخوص ، ولذلك لاأحبذ الكتابة عن أشخاص بعينهم وإن كانت لى كتابات قد تناولت أشخاصا فهى لاتعدو إلا ممن أثروا حياتى وشكلوا وجدانى تأكيدا لدورهم فى صياغة ذهنى وإنماء وعيه وتأصيلا لماتربيت عليه من ثقافة التعلم والتنوير واكتساب الخبرات من تجاربى فى الحياة ومن الأخرين ، وترسيخا لمبدأ الأخلاقيات أولا بما يتناسب وطبيعتى التى تتسم بالرومانسية الشديدة كل ذلك أسهم على الإجمال فى تشكيل شخصيتى التى توقر الكبير وتحترم الصغير ولاتقف عند صغائر الناس ــ وهم فى زماننا هذا كثر ــ تحاشيا الدخول معهم فى واقعهم الاجتماعى البغيض ورفض فكرة الإنتقام بأى صورة كانت حتى ولو كانت فى مواجهة الاستبداد بالقهر النفسى أو الاجتماعى التى قد تحكمها اللوائح والقوانين والهوى سواء فى حالات المخالفة أوتباين الفكر أوالاصطدام بالعادات والتقاليد ، ولكن هنا كتبت ولأول مرة ــ وأحسبها الأخيرة ــ أن أكتب عن شخصية سفيهة وذات دلالة واضحة على وجود تركيبة نفسية معقدة يشوبها الكثير على المستويين العملى والإنسانى ..وشخصية فريدة بهذه الكيفية أثرت بشكل أو بأخر فى حياة الكثيرين ممن عملوا تحت إدارته على مدى مايقرب من ثلاثين عاما ، جعلتنى أكثر جدية فى كتابة هذه السطور ، لأنه فى حياتى لم يقدر لى أن صادفت شخصية غريبة الأطوار مثل هذه ، والتى تعد نموذجا للتلازم بين النجاح ودقة التنظيم الإدارى لكن بجهود الأخرين فتقدم لنا فانتازيا النجاح المؤدى إلى الفشل المتدرج بدءا من النجاح الهولامى نتاج حماية الأنظمة المستبدة والجزئى نتاج خبرات تراكمية تجاوزت سنواتها الثلاثين والانتهاء المباشر بصدمتنا فى شخصه وما أتخذه من قرارات عكسية سلبية أضاعت كل مكتسباته الوظيفية والحياتية . إنها حركة يناير التى دعت للتغيير كبداية عهد جديد الذى لم يكن يتصور أنه سيأتى ، ولكنه القدر شاء أن يأتى بما لايتوقعه ، إنه يبدو وكأنه يواجه كابوسا ثقيلا ، كلما أفاق منه لايجد أمامه سوى أن يلقى بنفسه فى الماضى كى يستلهمه أويستحسه بالعودة أو يرتد هو إليه ، فقد كان بالنسبة للعامة ليس شخصا عاديا إنه رجل مهم .. أوراق سرية .. تقارير .. نتائج وتوصيات ، لقد كان ظله يفترش الأرض أمامه فى كل بقعة من المساحات الفارغة فى المؤسسة ، وكانوا يرونه من ظله قبل أن تبدو هيئته .. عقله كان يزن كل بقايا عقولهم فى الاحتواء والانقيادية .. تاريخه عريق فى كيفية التلاعب بمشاعر الأخرين .. خدماته جليلة لخاصة الخاصة ، مواقفه السياسية واضحة .. تملق لمن تدين له السلطة ، فتضعه فى مقدمة الرجال .. كان يصول ويجول فى المؤسسة وكأنه وريثها الوحيد .. تنطبع نبرات صوته السريعة فى أذهان الناس كالسياط التى توجع ولاترى ، تمنى الكثيرون أن يكونوا مثله .. أطياف من البشر كانوا يرونه نبراثا لهم لتمتعه فى استخدام ذكائه ودهائه وتأثيره على مدى رئاسة ثلاثة رؤساء اعتمدوا عليه إلى حد الإفراط ، إنها حالة تحتاج الى وقفة ودراسة فهو عبارة عن هيئة بشرية متغيرة.



وماذا بعد ؟! المؤسسة الأن عبارة عن بنايات وجدران فى مساحات وهمية لم تعد تاريخية كما كانت .. فقد التهمتها نيران الغدر منذ أعوام ، وحولتها إلى أشباح ، لفظت التجديد الممسوخ وبكت القديم العريق الذى ذهب ولم يعد ، أصبحت المؤسسة الأن ملفا أسودا متضخم الأوراق ليس فيه مايشير إلى تطور يساير الأحداث المغايرة لهذه اللحظات ، ورغم كل ذلك بقى كما هو فى منصبه .. وراحت أصابعه تقلب الأوراق باهتمامات جديدة ، ولكنه لم يعد يستطيع ملاحقة مايجرى الأن ..ثورات .. تمرد .. تغيير ، ماكل هذا الضرب المباشر المؤثر .. المقلق والمستمر ، أى نجاح سيصادفه كما كان ، ليت الماضى يعود ، لاستطاع يومها وقبل أن ترتد طرفة العين أن يحبط محاولات كل هؤلاء المتمردين من الجموع الصاخبة وراء الباب التى تهدر وتزمجر فى غضبة عارمة ، فكم كان يومها لسانا منهمرا يقطر قوة وحيوية ، ولكن كيف يعود الماضى وقد قضى الأمر وهاهى اللحظات المحشودة تخلق مالايتوقع ، جعلته يذهب فى دوامة اللاوعى ويفقد مصداقيته ويفقد عقله وأخيرا يفقد ظله الذى كان يوما ما ممتدا أمامه مد البصر .



أخيرا انكشف بعد أن حدقت فيه أعين متحفزة ، يداه ترتعشان ضلت طريقهما فى غفلة من الزمن بتوقيعات متداخلة مضطربة حولت الحياة الهادئة داخل المؤسسة الهرمة إلى ثورة أخرى ربما تولدت من رحم الثورة الأم الوشيكة ، فالميدان قريب جدا لايبعد سوى خطوات عنها . حيرة واضحة لدى المحيطين به من يعنيهم الأمر أو ممن يتابعونه عن كثب ، أحيانا يفقدون معنى التصرف فيهللون معه أو ضده ، فالقلة منهم من تربت على الاحترام لازالت تتحكم فيهم هيبته الضائعة حتى فى هذه اللحظات العجيبة المنكسرة ، أما المهللون كان أكثرهم يستميلونه ويتملقونه لمصالحهم الشخصية ارتكن هو عليها واطمأن بها ومع هذا كان يفقد كل يوم مابقى من اتزان ، ويفقد معه ماتبقى من احترام القلة والعامة وكأن لسان حالهم يقول لاتخافوا منه ولاتستكينوا لألاعبيه فهو دوما المسئول وإن كان هو الداهية الذى لديه القدرة العجيبة على تقليب الناس بعضهم بعضا ، إلا أنه فى النهاية هو المسئول لاغيره ، وحتى ولو كان المظهر سليما فلاتنخدعوا وابحثوا جيدا عما أفسده ليس من تاريخ تنحى وإقصاء النظام فحسب ، بل قبل ذلك بكثير ، ولكن ماالفائدة بعد فوات الأوان !! ، المشهد لاينذر بشئ غير التعتيم ، ومظهره العام بأنه مضطرب الاعصاب قد يعطى مؤشرات ولكنها ليست حاسمة ، إنها لاتعدو التكهنات تعقبها فتاوى ، ثم شائعات ، والأيام تمر والأمر كماهو .. خروج ودخول ..دخول وخروج .. وجه كالح وأذهان شاردة لايصدقون مايرون ، متعجبون فى حيرة ، ثورة بيضاء تحارب الفساد ، وفساد يستشرى فى كل شيئ بل أصبح أكثر انتشارا فى المؤسسة عن غيره من المؤسسات ، الأمر مقلق للغاية ظلوا يسترجعون قراراته فى الماضى والحاضر .. وآه من الماضى حينما كان مفخرة لهم وكان هو الإسم الأشهر والأبرز ، كم توالى عليه من الرؤساء وكم مرة أطلت صورته متصدرة صحيفة ما أو تلفاز وإسمه الذى كان يتردد بين الأفواه بفخر وجلال ، كان دائم السفر يتطاير مع كل شيئ فى الجو وكأنه لايريد أن يستقر على الأرض أبدا، وهاهو الأن قابع بوجه عبوس مسود فى مكتبه وقد تحول إلى قبر ، كل مافيه يهتز كانوا يلجأون اليه فى كل أمورهم وخاصة حينما كانت تضيق بهم دنياهم ، ولكن الأن ماذا يفعلون وقد ضاعت حقوقهم واضطربت وتداخلت فى حقوق الأخرين وعلى يد من ؟ على يده هو! . والأيام لازالت تتوالى وتتوالى بين الخوف والإشفاق .. التصديق والريبة .. المراوغة والإستمالة ، وعوده كثيرة مرة يرونها جيدة لابد من تصديقه ومرة يطردون هذا الخاطر فيرون وجها أخر ويزداد الأمر سوءا . الأيام الأخيرة كسرت بقايا الأوهام .. الأمل بدأ يتهاوى ، كثر فتح الباب وإغلاقه ، بدأ يحشر نفسه فى الزوايا الضيقة ، وكأنما يريد أن يحبس نفسه فيها حتى لايرى النور ، فهو يقلقه النور الآتى من أية جهة كانت ، قد يعلمها وقد لايعلمها ، فيضطر أن يقول كلاما عاقلا تنشرح له صدورهم ثم يعود إلى أحاديث خبرتهم بها تكذب وهمهم ، لقد ألفوا كلامه الغريب أطوارا ، طوال عمره كان يردد أقوالا ألفوها كانت تمثل قمة العقل وفى باطنها العذاب طالما كانت تحمل الوجه الأخر الذى كانوا يخافون منه ، والأن هل هو نفسه أم ماذا ؟! هل حقا فقد ظله أم لايزال يخرج الأوراق ويعيدها ويدبر أمرا مثلما كان يفعل ؟! إنهم لا يستطيعون الهرب من هذين الخاطرين الملحين فكلاهما مر ، ولايزال مصيرهم مهددا يرقبون السماء بانتظار لحظة الخروج من دائرة الوهم ويسألون أنفسهم كل يوم متى سيرحل حتى تشرق شمس التغيير لتمحو عتمة الظلم والجور وتنير لنا المؤسسة من جديد ؟ .











القاهرة فى فبراير 2012
          
                        مع خالص تحياتى : عصـــــــــــام