كلاسكيات مصرية

الأربعاء، 13 نوفمبر 2013

أمــى .. الغائبة الحاضـــرة







مقدمة

 أصدقائى وأعزائى :
لاتتصورون كيف يكون حالى حينما يلازمنى شريط ذكرياتى كل ليلة بكل مراحل العذاب والأمل فى حياتى ، التقط لحظات السعادة القليلة منها عندما استشف طيفها فيأتينى ويمكث فى وجدانى ، مستعذبا صورتها التى دوما لم تفارق خيالى ، وتسهم برحابة فى توجيهى بالتمكين الساعات المتبقيات من السهرة حتى أبلغ الهزيع الأخير من الليل فيدركنى المنام ، الليلة الماضية كان الوهج أكبر من قدرتى على الاستشفاف والاستلهام والاستيعاب ، فهممت وألقيت بجسدى المجهد تحت الأغطية.. واتكأت على الوسادة خلف رأسى لأقرأ بعض مستحبات الكتب قبل نومى حتى استطيع النعاس فى هدوء كما تعودت ، لكننى لم استوعب كلمة واحدة ، ولم أنم ، مازال طيفها يتدفق بعمق ويوقظ كل ذكرياتى ويلامس منعطفات الإستقرار فى حياتى .. يسرح بين حنايا المناطق الدافئة وينساب فى قلبى برفق وفى عقلى بتؤدة وفى وجدانى بوهج المشاعر التى تحمل حنين الماضى وضبابية الحاضر والمستقبل . أطفأت الأنوار من حولى وراح عقلى يسرد شريط حياتى فى تفاصيل أدق وأرحب.. لم يكن فى الغرفة سوى شعاع ضوء متسلل عبر النافذة راسما أطيافا وهالات فوق مضجعى .. وصمت واسع النطاق يتحرك جسدى فيه ، إننى محاصر بين عقل و ذكريات ومشاعر فياضة ورقيقة تواقة للحبيبة الغائبة الحاضرة الملتصقة بذاكرتى .. المهيمنة على تلابيب عقلى دون انتزاع ، حتى صور لى هاجسى رؤيتها على خلفية هذه الأشياء وكأنها تسير فى طريق من نور يشق عباب ضوء غرفتى الخافت .. تبتسم بفيض الخاطر ، تبتهج بتجليات مابعد زمن العذاب والألم ، وخاصة أننى منذ أن غدوت للحياة لم أفترق عنها.. عشت فيها وعايشتها فى كل اللحظات التى عانت وتعبت فيها ولم تكل ، كانت تثورعلى الابتلاءات فى قوة وجلد ، حتى سرت أحمل لها فى ذاكرتى كل مواقف حياتها .. أحفظها عن ظهر قلب وأحملها عن طيب خاطر لأمضى بها ومعها بقية رحلة حياتى .. أراها فى كل تنقلاتى .. زمانها مرآة حياتى ، وفى بحرعينيها العميق عرفت ذاتى ، فكنت أعيش على ضفاف مامنحته لى من حب وعطف وحنان .. أمسح بوجهى نظراتها المتألقة فى ملامحها الهادئة الجميلة لأتلمس مصادر القوة كى أمحو بها الضعف الكامن داخلى ، وأنطلق منه لمواجهة الصعاب ببريق هذه العيون الأخاذة التى تتبعنى أينما تحركت أو ابتعدت فى صمت . أسحب نفسا عميقا أملأ به صدرى بهواء عاطر بالحب الكبير المتغلغل بين حنايا قلبى .. بعمق الزمان والمكان داخلى فتمتلكنى ابتسامة عفوية متوهجة تحتوينى أملا فى الصباح الجديد الذى لم تتركنى فيه ، فيسبقنى لسان حالى طالبا لها الرحمة والغفران ، فتطيب نفسى وتطمئن وأدخل فى سُبات عميق .
   أمى أيتها الحبيبة الغائبة ، كم أنت حاضرة وموجودة فى واحة الحب ، تعتلين قمة العطاء الإنسانى .. فأنت الحب الذى بلا مقابل .. وأنت العطاء الذى بلا حساب .. وأنت باب المفتوح على الجنة . رحمك الله رحمة واسعة وأسكنك فسيح جناته قدر عطائك وجم حبك الغالى الذى لم ولن يتكرر .
  مع خالص تحياتى : عصـــــــــــــام     
                                                                  القاهرة فى نوفمبر  2013


صورتها الحلوة الجميلة ، بصمة حب طُبعت فى قلبى وعقلى معا .. تبعث خفقانا يجتاح كل كوامن نفسى ، يرجفها بعنف يهتز لها كل كيانى .. سرعان مايعود إلى مخبأه السرى فى قلبى ويغلق كل محاوره ، ويبدأ فى بث موجات من البكاء الصامت ، ويدفع بركامات الألم الخانق داخل صدرى ليضيق ويتسع .. يعلو ويهبط  ويترك أثرا عميقا للحب والحزن معا .. جرح غائرلايندمل ولايجف ، لتبقى علامة للزمن بنبض الحياة التى تدوم بعد رحيل صاحبها ، محملة بكل كلام الحب الذى أحتفظ بها فى مخملى بين طيات جلدى وفوق رأسى ، وبين أنفاسى حيث كانت تتسلل بينى وبين النفس الذى استنشقه ، لتنساب من الخاطر كل منابع الحياة الآتية من الجنة التى أسكنها الله تحت قدميها مدفوعة بقوة منهمرة لتكون نبراث حياتى بصفوها وإضفائها .. حبا متدفقا ليس لأبنائها فحسب ولكن لكل من عرفها ، ولازالت تتحكم فيهم هيبتها الضالعة برسمة الوجه الجميل ، والطلعة الأخاذة ، وشيمة الخلق ، وسمو الكبرياء ، وعظمة وروعة الأداء على المستويين الإنسانى والاجتماعى .. حتى ظلت هامتها مرتفعة ، طالت بها أجيالا لم يمهلها العمر بلوغها ، كادت أن تقارب بها عنان السماء رمزا للشموخ والرفعة .

شريط الذكريات يعود بى إلى حيث كانت ، فهى لازالت تملأ الدنيا حيوية ونشاطا ، لاتعرف الكلل رغم مابها من أسقام ، كانت أكثر ماتحرص عليه هو أن تخفى عنا مرضها وضعفها ، كانت دائما تنكرها وتحاول جاهدة ألاتشغلنا بها وبمعاناتها ، فكانت تعمل بدأب فى بيتها ، وتصر على مباشرة كل أعماله وحدها ، هى التى تكنس وهى التى تمسح وهى التى تغسل  وهى التى تطبخ ، فإذا أحست بنوبة من نوبات المرض تداهمها أو على وشك أن تلم بها جرت لحجرتها وتغلق عليها بابها وتعانى وحدها كثرة السعال يضيق معه صدرها صعودا وهبوطا حتى تنتفخ أوداجها ويحمر وجهها ويكفهر، وترفض فى إصرار الذهاب إلى الطبيب معللة بأنها ليست مريضة .. وأنها تعانى فقط نوبة من نوبات البرد ، وتمر الأيام ولم يذهب البرد ، ولم يهدأ السعال ، ونكتشف مع الأيام ضعفها ووهنها أكثر مما كنا نعتقد ، وعرفنا إنها مريضة بمرض الربو الشُعبى ، تمكن منها المرض واستفحل عراه بعد أن واصل ضعفها مشواره دأبا بلا رحمة ينهش فيها ويتملك منها أكثر من تفكيرنا فى كيفية علاجها ، فتضاعف عليها المرض ليشمل أمراض أخرى خشونة فى مفاصل القدمين سبب لها آلاما مبرحة تخز جسدها طول الليل ويتعذر عليها الوقوف والمشى بالنهار إضافة لضغط الدم الذى لم يبرحها ، وتسوء حالتها النفسية وأصبحت غير قادرة على الاسترخاء من الحالة الدائمة التى لازمتها من التوتر والقلق والاضطراب ، كل ذلك أرقدها صريعة الداء والمرض ، وطوتها أعاصير الحياة ، واندفعت مجهدة تلاطم أمواج العيش الضارية ، فلم يبق فيها أكثر مما نرى ، لقد ضاع انتصارها فى معركة الحياة سدى وذهب ريحها فيها هباء. ورأت أنها لم تحقق من خلالها ماكانت تحب أن تبلغه . وتركت الدنيا والبيت والولد والزوج والأهل عن عمر لايجاوز الخمسين عاما .. مضت غير عابئة بأيام عاشتها باحثة عن سعادة لم تبلغها بعد ، وأمل طال مداه .. وفرحة طالما تمنت أن تتلمسها فى نجاح الابناء ، أو سعادة تجدها فى رغد الحياة ولو لليلة واحدة تفرح فيها وهى تزف أحد ابنائها فى ليلة عُرس جميلة ، أو ابتسامة تظفر بها عند مداعبة الأحفاد ، تبخرت كلها حتى كان أقصى ماتمنته فى أخر أيامها اختزلته فى مجرد حياة مستقرة بسيطة تغلق فيها عليها بابها وتنعم بها فى هدوء ، لكن حتى هذا لم يتحقق لها أيضا . عاشت تعانى عدم الاستقرار .. مغلولة اليد ، المال فى يدها قليل ، أقل من تدبير حال بيتها ولكن أكسبها ذلك فطنة كبيرة فى كيفية تدبير شئون احتياجاتنا ، فهى كانت حريصة كل الحرص على  تربيتنا تربية سليمة ، نظافتنا هى أولى اهتماماتها ، وأخلاقياتنا كان هدفها الأسمى ، فلم نشعر للحظة واحدة أننا حُرمنا من شيئ ، بل عشنا فى رفاهية فى حدود المتاح من المال الذى كان يوفره لنا والدى بكده وتعبه فى مشقة الحصول عليه بالصبر والعنت ، فكنا نقدر قيمته وننعم ببركته . حياتها مع والدى وإن كانت لم تخل من بعض المناوشات البسيطة ولكن نادرا ماتحدث وعلى فترات بعيدة ، مسبَبَة من ضيق سعة الصدر وانقباض رحابة الأفق لرد فعل الأزمات ، ولكنها فى النهاية لاتعدو إلا بعض خلافات عابرة التى تمضى معها الحياة مابين الرفق والتوتر .. والغضب  واللين والهوادة ، كان والدى لايسمح لنفسه أبدا إيلامها أو جرح مشاعرها وكان أقصى ماكان يذهب إليه هو أن يحتد عليها بعض الشيئ ويتهمها أنها تفترى عليه ، وكان أقسى ماكان يفعله أن يتجنبها بعض الوقت ويلتزم الصمت فلا يرد عليها إن هى خاطبته ، وهى لا تستريح حتى تفتعل سببا للحديث معه فيجيبها فى البداية بتحفظ  مقصود وتواصل هى الاقتراب منه إلى أن يلين تماما ويعود لسابق عهده ويتعاتبان بلامرارة وتعتذر هى له أو يعتذر هو لها ، ليس مهما ، المهم أن الحياة عادت أدراجها لمجاريها بينهما ، وتشهد حياتنا أيام دافئة بعطر المشاعر والأحاسيس التى كانت تلم شمل الأسرة ، حتى تخرجتُ من الجامعة وأمضيت فترة تجنيدى بالقوات المسلحة  ، ودخلت مجال العمل ، كنت وقتئذ قد جاوزت العقد الثانى من عمرى ، وبدأنا نكبر وهاجمتنا مشاكل أخى مجدى بأحلامه الطائرة الطائشة التى سيطرت على مجريات الأمور ، ووضعنا فى موضع لانحسد عليه البته ، نالت منا مانالت وأتت على الأخضر واليابس من مقدرات بيتنا البسيط  ، فجاءت مصائب تتبع مصائب ، واحتكاكات بأناس لانعرفهم ، ووجدنا أنفسنا فى مواجهتهم فجأة ، إشكاليات ومحاضر وجلسات للتفاهم وأخرى للوفاء ماعقدنا عليه العزم فى حل مشكلاته ، وهو لم يعبأ ولاحرك مرض أمه ولا ضعف أبيه ساكنا فى قلبه ولاوازعا من ضمير ، كنت أهون عليهما قدر المستطاع وأطمئنهما التمسك بشعاع الأمل وأن عليهما أن يتعزيا بالصبر، لم يجدا بداً من التمسك بأهدابه على مضض وأبت الأيام إلا أن تكشف بمرورها كل شيئ عن مشروعات أخى الوهمية ، وبدت الحقائق واضحة بضياع كل ماكان يجمعه من أموال الناس لضخها فى تلك المشروعات ، وأنه لايملك شيئا سوى التصرفات العابثة ، فقد كانت طاحونة الزمن أسرع من أهلها إذ ابتلعت كل مانملكه من أموال رغم  ضآلتها  وخاصة بعد بيع الرمق الأخير من الحلى الذهبية التى اكتنزتها أمى للزمن حتى تسد عليه ديونه التى تراكمت بشكل متردى وسريع حفاظا عليه من ارتياده السجن الذى كان أقرب إليه من أى شيئ يفعله ، وماأكثرها رعونة حتى ولو كانت قد بلغت توقيعاته على شيكات دون رصيد ، لم يخجل ولم تعتصره صحة أمه التى أخذت فى التدهور السريع بسببه . ودون أن يشعر أحد كنا ندبر ونستدين ، ولم نكن نعلم ولانعرف أن وراء ذلك وقريب الصلة به هى أرملة .. إمرأة لعوب ومعها أولادها الذى كان أصغرهم يكبره سنا ، اندفع إليها بلا شهامة ، وكانوا أقرب إليه حتى من نفسه ، استطاعت أن تستميله وتخدعه وتملك عليه أمره ، ارتبطت به ارتباط  منفعة ، فحصدت أموالنا وأموال الناس وهى تعلم أن كل هذه الأموال سحتا فى بطون أولادها . ويتحول البيت الهادئ الجميل ، إلى بركان يغلى ، انصهر فيه كل شيئ وضاع فيه ماضاع وجرف كل ماكان يأتى فى طريقة عنوة ، كان أخى يأتى بالمصيبة على قدر مانملك أو مايمكن أن نفعله من طلب الاستدانة ، فاستدانت أمى وماكانت للأستدانة بحاجة ، لم يؤرقه ماوصلنا إليه من حال ، بل ولم يشأ أن يخبرأمه بأمر زواجه منها ، وكأنه قدّر أنه أقدم على عمل مخزى سيكون بمثابة الصدمة لنا جميعا ، فاجأنا به بعد وفاتها ولم يأبه ولايتورع عما اقترفه فى حق أسرة كاملة عانت وتشتتت ، وضحت أمى بحياتها بسببه .



  ثقلت الدنيــا عليـها ، لم يعد للجسد الواهن الضعيف القدرة على الإحتمال ، ولم يقو فترفعت عن الحياة ، وكانت أرادة الله هى التى منحتها الراحة ، من عذابها ومرضها ، وحياتها الصعبة القاسية ، فقد كان قدرها أيضا أن تتحمل إلى جانب مشكلات أخى ، أعباء أسرية أخرى حملتها لنفسها راضية ، تحسبت فيها معنى لم شمل الأسرة ، من ابناء وإخوة ، وقدرت وفاءها لأمها وأبيها ، كل ذلك وضعها موضع المسئولية لشخصية قوية قادرة على إصدار القرار المناسب فى وقته وحينه وتملك المواجهة بمنتهى الشجاعة متحملة أعباء مسئولياتها ، فكم من مشكلات واجهتها بكل احترام المواجهات ، بعد أن فرضت نفسها عليها فرضا ، وأحكمت نفسها إحكاما ، فكان عليها أن تتصدى لها وحدها ، حاولتُ قدر الاستطاعة أن أذود عنها خطبها ، أو أشارك جانبا من تحمل تبعات ماتواجهه ، ولم أستطع ، ليتنى كنت أقدر ، لو بمقدورى كنت محوت عنها كل عذاب .. وسحقت منها كل مرض .. ولنزعت عنها القهر والقلق والتوتر والألم والدموع والجراح العميقة ، هذا ماعجل صنع نهاية حياة قصيرة لأم فذة ، علمتها الحياة معنى العزة والكرامة ثم أوعذتها للغير لتنال منها ، ولكن أبدا لم تلجأ إلا لله ، فواجهت من الابتلاءات ماواجهت ، ومن النوازل ماينوء بحمله الجبال فتحملت ، ومن النواكب ماسد عليها كل نوافذ الأمل المفتحة فأصرت على فتحها بتقديم المزيد من الألم  بسماحة نفس وهدءة رضا وابتسامة رقيقة ، حتى ضاق صبرها ، ووهى جلدها ، وضاع شبابها الغض ، وراحت طلعتها الحلوة التى كانت تملأ حياتنا اطمئنانا وسكينة .

 طبيعة حياتها أكسبتها الكثير ، فقد كانت لبقة فى التعامل ، تملك ذكاء القلب وفِراسة العقل .. شفافة الروح ، تفهم الشخوص باستشعار حسها القوى وتقرأهم من عيونهم وتعرف ماكانوا يضمرونه فى صدورهم وتصل إليه ، أما عن نفسها كانت شديدة الحساسية تعرف كيف تخفى مايعترك بداخلها عن أعين الناس ماكانت تكره أن يراه أحد ، وكانت توفق بفضل هذه اللباقة وهذا الذكاء مايجعلها تبدو شديدة الحرص على ألا تجزع أبدا رغم اختلاف هذه المشاكل وتنوع حدتها . ولكن أى شيئ يبقى على الأيام ، لقد ذهبت ، كما ذهبت بنضرة شبابها ، وبكل ماكان يجب أن يكون لدينا من مال وأرض وأملاك لم نتملك منها شيئا ، وذهبت أدراج الرياح ، وأخذ الغير كل ماتبقى لنا من ميراث جدى ، وأصبحوا ينعمون بحقنا الشرعى  ، بعد أن كتب جدى بقية أملاكه وأملاك جدتى لزوجته العاقر ، ليستفيد بها أولاد أختها بعد موتها ، أما نحن فقد آثر والدى أن ينجو بنا من الصراع الدامى على ميراث الغضب . ومضت أمى فى الحياة تناهض ابتلاءاتها وامتحانات الدهر المتلاحقة وتواسى الظروف وتحثنا  الصبر والجلد ، كل ذلك جعل منها امرأة مذعنة لحكم قضاء الله فيها وبمسئوليتها الرهيبة التى كتبت لها ، فكانت لاتنكر شيئا ، محزونة ولكن فى دعة ، ملتاعة لكن فى هدوء ، لايحسه أحد من شدة حرصها على إخفاء مايضمره نفسها ، وكتمان ماتحس ، واحتفظت لنفسها بمشاكلها وخطوبها ، حتى نحن حاولت قدر الإمكان أن تبعدنا عن دائرة هذه المشاكل ، فكان كل من كان يعرفها يختلف اختلافا بينا فى تقدير أمرها وتربيتها لابنائها وحسن تدبير شئونها ومع كل هذا الإخفاء فإنها لم تستطع أن تخفى ماأودعه الله فى نفسها من ملكات مالايستطيع أن ينكره عليها أحد ، حيث كانت قوية الشخصية  ، سمحة الطبع ، رضية النفس ، سخية اليد ، حلوة العشرة ، عذبة الحديث ، تملك قلبا يفيض بالحب ، بسيطة ،  متواضعة ، قوية الإيمان ، تسيطر عليها نزعة دينية ، رغم عدم بلوغها من التعليم مايساوى فطنتها وذكاءها الحاد ، فكانت تتعلم الأشياء بحسها الواعى ، إنها كانت تملك نفسا تعرف كيف تضبط أهواءها ، ومع ذلك لم تظفر بعد بحياة هادئة كطبعها ، فما زاد ذلك إلا دفعا للعمل على مسئولياتها ، واضطرابها فى الحياة إلى قوة خفية وتماسكا مع الأيام ، فكان نهارها جهدا وعملا ، وليلها  لاينام لها جفن فيه ، كانت لاتنام من الليل إلا القليل ، كل ذلك جعلها تحس احساسا قويا ، ولكنه غامض ، أن الأيام قد وفتها حظها وأنه جاء على غير ماتحب ، أو كما تمنت أن تراه ، فكان لها هذا مصدر ألم وحزن ، تعيشه وتقدره وتنتظره .
أمى ..

كلما لامسنى شريط ذكرياتك  تنساب منى العَبرات دفعا وتملأ جفونى ، رحمة ورأفة بمن معى وهم أحفادك ، رغم أنهم لم يروا وجهك قط ، ولكنهم عاشوا روحك ، وغاصوا فى أعماقك  دون أن تقع أعينهم على وجهك الجميل الصبوح ، فلا يمر يوم دون أن أتكلم فيه عنك ، فأنت الجزء الغائب من كيانى .. أمى كم تمنيت أن تكونين معنا بوجهك العطوف ليقاسمنا ــ كما كنا وكما كان عهدنا الدائم بك ــ لذة الأيام وقسوتها ، كم تمنيت أن يستمر حديثنا المسائى كل ليلة والذى كنا نصفو فيه مهما طال الليل بنا ولم يثقلنا أى هم ، ولم يضق بنا المكان ، وكان حديثا مطولا كله عن الذكريات .. ذكريات الماضى وأخلاقيات الناس وسماحتهم فيه ، ذلك ماتعلمتيه وعرفتيه وأخذتيه عنهم ، وها آنذا قد أخذته عنك . وأحيانا كنت أجلس الى جوارك على حافة السرير عندما أحس أنك متعبة ومجهدة  أشاركك ألامك فأحدق فى وجهك الأبيض الصافى المريح الذى لم تستطع سنوات التعب أن تنال منه وترسم تجاعيدها عليه ، كنت أسهر معك .. أرقب لك مواعيد الدواء .. وأراقب سكاناتك وايماءاتك  وأنفاسك حتى عينيك المغمضتين اللتان استمد قوتى منهما أشفق عليهما وأتمنى أن لو ظلا متفتحتين طول الوقت حتى أحس أن الدنيا تشرق لى وتبتهج ، استنشق عبيرها الذى لازمنى سنوات عمرى التى مضت ، كنت أحس كلما نظرت ليدك أن العمر الجميل يتسرب بين الأصابع .. والنبضات تتهاوى من عروقك .. تسحبه خيوط المرض اللعينة والأزمات المحكمة ، فأعود فى التو وأهرع إليك لأحضنك بشوق مرة أخرى كأنى أحضن الدنيا بين ضلوعى وأحثك مواصلة الكلام حتى أقتل الظنون التى تأخذنى وتردنى فى دوامات عميقة لانهاية لها  ، أمسك يدك فإذا بها باردة متشنجة اسمعك تئنين بحشرجة مكتومة من كثرة السعال انتظر حتى تهدئين وتنامين ، أنتظر ساعة وأقوم أمسك يدك مرة أخرى ولاأستريح حتى أحس أنها أصبحت دافئة وجبينك مبللا بندى رقيق يعود معه ملامحك عادية أقوم وأصلى شاكرا لله  مسبحا بحمده وشكره على عنايته الإلهية التى رحمت ضعفك ووهنك وحين أطمئن عليك أشعر بأن البيت عادت له سعادته ، وأنطلق منتشيا فرحا بعودة الأمل الجميل ليحتضن حوائطه من جديد . كان أجمل شيئ فى حياتى هو ترديد دعواتك لى بأن أكون مثلك محافظا على القيم والمبادئ ، وأن هذا خير من كنوز الدنيا ومافيها ، وكان منتهى أملك أن أكون لك عوضا فى هذه الدنيا عما جزعت فيه بالنسبة لأخى ، وعن ماحُرمنا منه من راحة البال التى ضاعت معالمها مع مشاكله الكثيرة التى كانت لاأول لها ولاأخر ، بل هى إرادة الله قدر وشاء ، وكنت دائما ماتقولين علينا بالصبر وهذا ابتلاء والذى عنده أبقى وأفضل ، وكان منتهى أملك أن ترى لى أولادا ، وكان وقتها أملا بعيدا رغم أننى كنت فى بداية عملى ، لكن طواحين مشاكل أخى كانت تحصد كل ماكنت أتقاضاه أولا بأول ، وكنت تحزنين على ضياع مقدراتى ، لكنى كنت دائما أثبتك وأقول لك إننا فى إبتلاء لانستطيع دفع شر ولا جلب خير ، وأن الزواج نصيب ، والأولاد رزق  وكلها من عند الله ، وليس أمامنا إلا الصبر .. الصبر وحده ، فإذا بك تهدأ نفسك ، وتذهب للسكينة وترددين عبارة واحدة فى تكرار دائم "الحمد الله "  لكن يابنى ماذنبك أنت  فى كل هذا ؟ وكنت أقاطعك وماذنبك أنت أيضا فى هذا ؟ إنها إرادة الله ومشيئته ولا رادا لقضائه.

لقد تبخرالحلم على تلك الصورة التى تبعث الأسى والحزن وأدركت أمى أن القدر شاء أن يجعل مكانها بين أحضان اليأس والشقاء ، وأن ماتعيشه هو بلاء وابتلاء ، وامتحان صعب رهيب ، وأن أحلامها فى أولادها لم تكن سوى سراب خادع كاذب ، فقد تقطع كل ماكان موصولا بينها وبين الأمل والرجاء ، والبيت الهادئ الجميل أصبح مبعثا لثورات صاخبة على أخى لسوء تصرفاته البغيضة والمتكررة ، وكلما احتد النقاش ــ وماكان أكثره ــ تعالت صراخها المكتوم بأنها مسئولة معه ومتضامنة فى هذا الخطأ لأنها لم توفق فى توجيهه وتربيتها له وهكذا استقبلت أمى حظها العاثر وتألمت بقدر ماتألمت ولم تجد بداً من الخضوع لمشيئة الله وترضى صابرة بما كتب لها ، ذلك أجدى وأبقى .
 
حتى جاء اليوم الذى كنت أخشاه ، أتذكر على خلفيته الليلة التى سبقته ، عدت فيها من عملى متأخرا قبيل وقت المغرب ، لم تهم كعادتها وتعد لى طعام الغذاء ، بل وجهت أختى لإعداده ، كانت جالسة على الأريكة فى بهو الصالة أمام التلفاز ولم تكن تشاهده ، جلستُ أمامها على المنضدة الصغيرة أتناول الغداء ، وكأن القدر أعد هذا المشهد على هذا النحو ، كانت عينى معلقة بها ، استوقفنى تماما استداراة وجهها الأبيض حتى أصبح كالبدر فى تمامه ومالت خدودها للون الوردى المائل للحمرة ، اتسعت عيناها ولمعت وراحت عنهما انكسارهما وروعهما ، أنفها دقيق مستو ، شفتاها ناضرتان متوردتان حتى بات وجهها كوجه طفلة لايتجاوز العشرين عاما . انعقد لسانى عن سؤالها عن سر هذا الجمال العجيب الذى لن ولم أر مثله قط فى حياتى ، وحدثت نفسى متسائلا : ترى هل من المستحيل أن يلتمس هذا الوجه اليانع أطراف السعادة ويتمرغ فى لفائف تلك الهناءة التى تمنتها فيتحقق لها كل الذى عاشت من أجله وسبحت فى أجواء دنياه حالمة ساهمة مثلما أراها الأن ، كلا ليس هذا بكثير على خالقها أن يُمن عليها به ، ويمنحها سعادة هى فى أشد الحاجة إليها. دخلت حجرتى بعد أن أكلت فنادتنى وأصرت أن أتناول بعض ثمار الفاكهة معها ونتكلم . أكلتُ ، ولكنها ظلت على حالها ساهمة ، لاتتكلم وكأنها سارحة فى دنيا غير دنيانا ، وكأن عداد كلماتها أصبح محسوبا عليها يعانى انحساره ، أجدها لاتتأوه من تعب ولم أسمعها تسعل ، دخلت سريرها وجعلت وجهها تجاه القِبلة وعيناها شاخصة فى اتجاه السماء عبر النافذة تنظر للقمر الذى أكتمل بدره ، وعم ضياؤه فى هذه الليلة وجاء فى أبهى حُلة ، يرسل نوره بسخاء فى كل أرجاء الحجرة فى تناغم رائع من وحى الطبيعة ، ظلت على هذا الوضع على غير عادتها ساهمة لاتتكلم ولم تسهب فى حديث المساء كما تعودنا حتى أدركنى المنام ، وكأن الحياة ألجمتها ، وتعجبت ، ألهذا الحد هى عازفة عن الكلام؟! وتعجبت أكثر حينما رأيتها على نفس الهيئة فى الصباح وكأن عينيها جافاهما النوم ، لم تشأ أن تحضر لى طعام الإفطار كما كانت تفعل كل يوم ، قبلتها وهى على هذا الوضع وكانت أخر كلماتها لى : خلى بالك من نفسك ، وذهبت لعملى غير أن ثمة شيئ جعلنى ألتفت لشرفة منزلنا بعد أن جاوزت عرض الطريق أمامه ، وتعلقت أنظارى بالشرفة ومسحت المكان بنظرة لم أدرك معناها ، وذهبت لعملى ، حتى جاءت الساعة الحادية عشرة ورن تليفون المكتب ، وجاء صوت أخى الصغير مهاتفا .. مخنوقا .. مذموما .. حاملا ماأكره أن اسمعه فى حياتى ويخبرنى  بأن أمك ماتت ، أمك ماتت ، تجمدت مكانى ، سقطت السماعة من يدى ، تاهت نظراتى الشاردة فى المكان ، تدفقت الدماء حارة إلى وجهى ، شعرت بدوار وقلبى كاد أن ينفجر ، لم اعد قادرا على متابعة زملائى وهم يتجمعون حولى لاستبيان الأمر ، سألونى ماذا حدث ؟ انكربت وانسابت الدموع من عيونى حارقة على وجهى المفجوع ، هرولت إلى أبى فى المسجد حيث كان منتظرا صلاة الظهر وأخبرته فأخذ يقلب كفا على كف مرددا : كيف حدث هذا ، ومتى ؟ إنا لله وإنا إليه راجعون ، يارب ، يارب وانسابت دموعه هو الأخر بهدهدة وغزارة ، أقلتنا سيارة من العمل وعلى طول الطريق لم أر شيئا أمامى ، المشهد تحول إلى جمادات ، ضقت بالشخوص و تحولت الأبنية فى عينى إلى ركام من رماد وكأننا فى عراء ، الطرقات ضاقت واصفرت فى عينى ، قرص الشمس أكفهر شق كبد السماء وتحول لجبروت رهيب سرعان ماأنفجر ، تناثرت شظاياه وملأت المكان ، لاتوجد ذرة من نسمة هواء على وجه الأرض ، فكل مافى الأرض والفضاء أصبح هامدا وغير قادر على الأنين ، وصرخات مكتومة تنطلق بلتياع داخلى وأرى الناس سامدون يتحركون أمامى بجنون بلا إرادة كأنهم تحرروا من كل قوانين جاذبية الأرض ، وأصبحوا هائمين متخبطين لايدرون إلى أين سيمضون ، كل شيئ عندى هان أحسست بمشاعرى تتبلد ، وأحسست بمرارة شديدة تزم حلقى والدموع تعتصر قلبى ، فبكيت بحرقة ولكن بصمت ، أخذت أقرأ بعض آيات من كتاب الله بتلعثم ، هل حقا بدأت أيام اليتم ؟! ، وهل سأجمع شظايا حياتى الثقيلة التى تفجرت منذ الأن وأحملها وحدى على ظهرى وأمشى منحنيا بها بقية عمرى . حدثت نفسى كثيرا فى حديث العراء حتى وصلنا للمنزل ، ودخلت عليها لأجد القلب الخفاق قد توقف ، والجسد المسجى يرقد بسلام وكأنها نائمة هادئة تحلم بالغد الذى لم ينصفها ولم يأت لها ، انخرطت مجهشا فى بكاء مستمر ، كم هو مفجع أن تغادر الروح جسد من تحب وتختفى من أمامك  ويشحب وجه العطاء وتذبل الشجرة المثمرة التى طالما شبعتنا من جُودها ، والأن تشرف على الجدب والفناء .. ذبل هذا الجسد الذى كان منارة تضيئ لنا البيت ويملأه بالحيوية والحنان والحب ، حدقت فى وجهها فإذا هو مبتسم مستدير مبلل بالعرق كأنه مسك ، قبلت جبينها وتخيلت بأن عينها اليمنى قد تفتحت ونظرت لى لدرجة أن الشك ساورنى بأنها لم تمت ، تحسست خدها وارتعشت أصابعى وسرت فى جسدى قشعريرة باردة وتمنيت أن يخترقنى الموت بدلا منها ، انحنيت عليها وعانقتها مرة ثانية ، وجلست على حافة السرير مثلما كنت أجلس عندما نتكلم ، قبلتها من جبينها قبلة طويلة ، سمعت صوت خلفى ينادينى ويحثنى أن أرحم نفسى ؟ ولكننى لم أدر ماحولى وأصغيت لتراتيل عروس السماء وهى تُزَف فى موكب مهيب ، أنها الأن أصبحت ملكا لخالقها ، استرد وديعته ، أصغيت لحكمة الله والكون كله معى يصغى ، أنها ماتت وهى تبتسم كالملائكة . رافقتها فى سيارة دفن الموتى وجلست بجانب نعشها  ثم مشيت وراءه وحتى اللحظات الأخيرة للدفن ، إننى غير مصدق أن هذا الجسد النبيل ستغيبه الأرض وسيوارى التراب والظلام بعد قليل ، ولو علىّ لأنطلقت أجرى حتى أصل لقمة جبل المقطم الشامخ أمامى وأرسل من فوقه صرخة مدوية أملأ به فضاء الكون الفسيح  ، ثم أنكفئ على الأرض مستسلما  هامدا دون تفكير ، لاجدوى من التفكير . انتهت مراسم الدفن ، وانتهى معه كل شيئ .. كل شيئ . ، ومكثت بجانب القبر أقرأ لها القرآن وابتهل لها بالدعوات ، وعدنا إلى البيت ألملم الجراح ، مضت الشهور الاولى وانا على حالى مذهول أرفض الواقع المر وأحلق بالخيال ، تطالعنى صورتها أمامى تعذبنى ، أناجيها .. تطاردنى فى اليقظة والمنام .. وأوقات الليل والنهار واستمتع بالعذاب ، وتتدفق كل الذكريات ، يالها من دنيا ، أمى تحولت لذكرى.. مجرد ذكرى ، تصول وتجول داخل رأسى ، أمى أصبحت فكرا فقط ، أحيانا أهرب منه محاولا  تفادى مداومة النظر إلى عينيها ، لكن ثمة شيئ يجذبنى إليها تلقائيا وكأن روحها حية تحاكينى .. تخاطبنى .. تبوح لى بحكاياتها الكثيرة وتطول جلساتنا على أريكة المشاعر بجوار الشرفة حتى يدركنى وقت الفجر، أبكى فتبتل الوسادة بدموعى ، أقوم للصلاة حريصا كل الحرص على أن أبث دعواتى لها وأنا ساجد لله .


ذهبت ياأمى وبقيت المشاكل وتهنا معها وأتذكر أن أبى أخذ يبكى عليك كالطفل الصغير وأحس بالضياع من بعدك ، وتوالت الأحداث ومات أخى مجدى فجأة وتوقفت  مشاكله ، ولكن عانيت لفترة من أثار توابعها، وأبتليت مثلك تماما ، ولكن مااكتنزته من دعواتك شاءت مقدرة الله أن تكون لى تجليات احتوتنى ، واحسست بأنفاسك موجودة معى وحولى تحمينى عند الشدائد ، وتجلت قدرة الله فى حل كل توابع مشاكل أخى وغمرنى الله عز وجل بوجوده معى بآياته .. شعور بإحساس اليقين هدانى إلى بر الأمان دون حيلة منى أو تدخل من أحد ، شعور لاأستطيع وصفه ، ولكننى عشته برحابة واتساع أفق الشفافية وجمال التجليات الربانية ، وكله كان بفضل دعواتك ودعوات أبى رحمة الله عليكما ، فلا أملك لكما من الله إلا الدعاء بكل العفو والمغفرة والرحمة والسكينة والمنزلة العليا فى الجنة .




أمى .. ياأجمل كلمة رددتها اعماقى .. يانهر متدفق من الحب ، فلا أحد فى هذه الدنيا سيحبنا أكثر منك ، فأنت الشخص الوحيد من كل الناس الذى يحبنا بلا مقابل ، حبا حانيا دافئا وصافيا ، لاحدود له ، أنت النهر العذب من الحنان الذى لاينتهى ولاينضب أبدا ، فحب الأم مستمد من حب الله سبحانه وتعالى وجزء من رحمته وحنانه وعطفه ، مهما قلت فلن أوفيك حقك ، فأنت التى علمتينا معنى الحب والترابط ، وكيف يكون الإنسان إنسانا ، وكيف يكون الإنسان قويا مع نفسه حلوما عطوفا مع الآخرين ، وأنت التى علمتينا أن أرفع الرسالات فى الدنيا هو بناء الإنسان ذاته .. إنسان المبادئ والمثل العليا ، والأخلاق الحميدة .. علمتينا هذا بسليقتك وفطرتك وبنظرتك الثاقبة للأمور وبحسك الواعى القوى ، إننى لازلت أردد فى أعماقى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عندما ماتت أم أحد صحابته حيث قال له : " يافلان لم يعد لك أحد فى الدنيا " فسأل الصحابى الرسول : كيف يارسول الله حتى أنت ؟ فقال له الرسول الكريم : " حتى أنا " .


أمــــــــى

توحشت فى غيابك عنى كل لحظة            

                                     منذ أن ايقنت أنك لست بمؤنسى

فليس فى قربى منك سوى تبدد وحشتى      

                                       وماأكثرها وحشة بعدك لاتتبدد

والله لاأجدنى إلا قلبا شيك بشوكة                

                                  لا تنزع حتى ولو فار دمى وفاضت مدامعى

وإن قلت أبصرها فى كل ركن كان لها متكأ    

                                      قيل كيف وقد حال الموت عين بصيرتى

والله إنها تجلت منى حتى بدت                 

                                     وكأن البعث فى الدنيا لم يكن بمعجز

فأيقنت أن أمى منى لم تمت                         

                                     إنما هى رمز العطاء بقلب شامخ

ستبقى أبدا ياأمى بنفسى  كامنة


                                     حتى يدركنى الممات  فتذهب

أمى .. سلام الله عليك .. حيث أنت .. آمين






الأحد، 27 أكتوبر 2013

رسالة إلى والدى .. قاهر الألم









مقدمة

لاأدعى لنفسى أننى أجيد كتابة الشعرعندما قررت أن اكتب فيه ، ولكننى كنت ولازلت أؤكد أنها محاولات ، مجرد محاولات لرسم بعض الأحاسيس الوجدانية الخاصة بى عن طريقه ، فكانت تجربتى الذاتية هى المنفذ الوحيد للتجربة الشعرية ، منها تسللت لوجود الرغبة فى مسألة الخوض فيها ، رغم إيمانى الشديد بأن خبرتى بكتابة الشعر محدودة للغاية ، حيث إنها  لاتتعدى مباهجى وقدراتى المبكرة فى الرسم والقراءة وكتابة الخواطر، وإنما جاء انفتاحى عليها نتيجة طبيعية لاكتسابى لبعض مداركها عن طريق الدراسة إبان دراستى الجامعية بتتبع مسارها قديما وحديثا ، بدءا بالشعر الجاهلى وانتهاء بالشعر الحر ، والمسافة مع الفارق كبير . وكان أسهل عندى أن أفهمها من أن أخوض أى تجربة فيها ، لأن تجربتى الشعرية إنما جاءت باجتهاد ، وليس عن موهبة ، وأن كتابة الشعر فى حاجة إلى قدرات خاصة وموهبة نرجسية تستلهم كل الطاقات المبررة والمعقولة بفيض حب اللغة وركام مفرداتها والرصيد المعرفى لأدق تفاصيلها والإلمام الشديد بالمعانى الرصينة لعمق أغوارها والبراعة الفائقة فى استخدام ألفاظها أفضل استخدام ، وانتهاء بالمقدرة على الوصول للمتلقى باجتراحه الفهم مابين السطور، وكثيرا ماشغفت بكتابات شعرائنا الكبار، فدائما ماتستوقفنى كتاباتهم وتجعلنى لاأدرك أسرارها إلا بتتبعها والاقامة بين فجاج أعاصرها وفهمها ، من هنا تعلمت أن الإنصات إلى نتاج الغير لهو الأفضل والأرقى والأجمل من مشقة الخوض فى كتابتها ، لأن الوقوف على مسافة معقولة لأى تجربة شعرية ومراقبتها والتربص لها تجعلنا حالمين فى هتك أسرارها الموحية بها ، والراصدة لها والداعية إليها ، فالتجربة الشعرية تجربة خاصة تسكن فى الأبعاد البعيدة برحابة المقصد فى توصيل المعانى بشكل فلسفى يعيد للألفاظ تألقها ورونقها فى ظل توسيع دائرة البحث عن الجوهر وإبرازه فى تكات أو شطرات . وكثيرا ماأعجبتنى كتابات أصدقاء كثيرين لديهم هذه الملكة وتلك الموهبة ، سواء كان التلقى بطريق السمع أو القراءة . فالشعر مد جميل للمشاعر الإنسانية يتغلغل فى شرايين الواقع النفسى لينخرط فى الواقع الحسى ومعاناته ، بوصفه وكشفه فى عمق المعانى وجمال ألفاظها فى استخراج الجمال من مواطن بيئتها الطبيعية وتقديمها فى صورة شعرية تعكس مدى قدرات كاتبها الفنية والثقافية وحسن توظيفها فى ثنايا النصوص .

هذا ماأردت أن أقوله وأوضحه ، حتى جاءت كتاباتى الشعرية قليلة جدا ، ألجأنى إليها الألحاح الداخلى وهو الذى دفعنى للخوض فيها ، فأنا لم أكن سوى عابر سبيل لتجربتها الصعبة ، وليس أى شعر أكتبه بل لايتعدى ولايتجاوز الشعر الحر أو الحديث أى نص متعدد التشاكل يتلون وتتعدد إيقاعاته ويسمح بسرعة التنقل بحركية الكلام ليصيرللنص رؤية إرسالية ترسل وتستقبل ، هى نفسها العلاقة بين ماأكتبه ومن يتلقاه ، فدلائل نصوصه تجعله أبسط درجات الشعر من حيث الملاءمة وسهولة التناول وعدم الالتزام بالوزن والقافية ولاالتقيد بالنظام العروضى لأبحر الشعر حتى لاتكون هى المحددة فى بناء النص ، وإن كان يُبقى على بعض مظاهرموسيقاه الخارجية بانتقاء المترادفات وحسن استخدامها كإيقاع كى لايتخلى عنها كلية من أجل تماسك النص ، إلا أنه يرتكز وبصفة أساسية على الموسيقى الداخلية له وإيصالها على نحو يعطى مكونا يُبنى على التقاط  الموهبة لها  ولأسرارها ويفصله عن النثر خيط رفيع لايدركه إلا الذين يعرفون مسارات الشعر ودروبه ومسالك اللغة وبلاغتها ومفرداتها واستحضارها .
هذه رسالة لأبى كتبتها بفيض الخاطر ، عرفانا بجميله ، ومناجاة لسيرته ، ومحاكاة لطلعته وعطاءاته التى لايحفها حدود ، وارتساماته لهدى طريق سرت فيه على دربه ، متمسكا بإيمان فضله ، ورقى حسه ونقاء سريرته ، وقيمة قدره ، وعلو هامته ، ومعدن أصله ، فعرفت معنى الاحتواء والحماية والاطمئنان منذ نعومة أظافرى ، وكيف أنها كانت تنطوى على قدر كبير من القيمة لديه وماتنضوى عليه من عمق قدرته وعطائه وفضله .
  مع خالص تقديرى وامتنانى : عصام
القاهرة فى أكتوبر 2013




سيدى.. بعد التحية والسلام


لك وحدك أكتب أشجى كلام
سيدى .. 

كلماتى إليك .. عَبارات


تسقط  فرادى


دمعة .. دمعة


بعدها الشلال


جاءت الدموع وفاضت

بعد أن هربت منك الحياة

والإبتسامة منا بهتت وشاطت

والضحكة ولت

والفرحة كلت وراحت

فانهمرت الدموع .. 

ثم مزيد من الدموع
سيدى ..


لاحيلة لى إلا دموعى


بعد أن تكسرت جذوعى


وتهشمت دروعى



وتصدعت جدرانى


فأصبحت أعانى انكسارى


من ضربات الزمن 

فى بُعدك وانحسارى


وهاآنذا عارى الكفين ..


أصارع وحشتى


وأحس فى غيابك


غربتى ووحدتى


بعد أن عشت فيك


زمانى ومكانى


أجمل ما فى حياتى


وعندما ذهبت ..


ضاع منى زمانى 


وضاق بى مكانى


لكنك علمتنى سيدى 

كيف أواجهه بذاتى


والوقوف أمام ضرباته


وعلمتنى السباحة ضد تياراته


علمتنى دأبا فى حياتك

كل أطواره .. 


وكيف أنشب أظافرى 


على الحجر الصوان

وأكتب على الجدار


أثبت بها وجودى


وأترك بصمة على المدار


مآثر حياتى

نقوشا من ذاتى


بسمة فى كل دار


محفورة بكدى واجتهادى 

بنفس أبية وجسارى

  
رموزا وطريقا مُعبدا ودَثارى


ليسلكه من بعدى 

أحبابى وصغارى .






سيدى ..


أنت الرجل الرشيد


الذى علق بك القلب


ورحلت ..


فتصدع القلب


ومضيت أجمع شتاته وأشلاءه


ولم أزل


أمضى حياتى أبحث عنك


لازالت أبحث عنك


ورغم أحزانى


لم يضع منى عنــواني


ولم تطح العقبات أركانى


مادمت فى بقايا أشيائى


فى إحساسى ووجدانى


رأسـى وأذانـى


حركاتى وسكناتى


أفراحى وأتراحى


ونوحى وأشجانى


موجودا ..


مصونا ..


معشوقا ..


كامنا فى زفرات أنفاسى


مستلهما منك خطوات ابنائى


يا صاحب القلب الكبير .



سيدى ..


تذكرت سنين بعيدة


كنت أحج إليك مريدا


كل غداة ورواح


أتذكرك


كل مساء وصباح


على معدية الأمانى


أسمع قصص الأغانى


ومواويل الغربة والدار


وزمن العشق والنار  


وقبل موعد الغسق


غابت حياتك

فتسلقت الشهق


واستعذبت الملق


لاشتم فى ورد الجنان العبق


وجمال العشق من زمن النزق


وبعد الغسق


ضاع الرمق


ورحلت بعيدا


وتركتنى وحيدا


عانيت الغربتين


المكان والورى


ثكلت الدنيا


وواجهت الردى


وأُغتيلت النفحات


وروض العشق مات


وزمن الصبح فات


صاغت روحى واستنهضت


والأيام فى بعادك استرهبت


والقلوب لك بالدمع اغرورقت


وعن رغد الأيام استفسرت


حتى تهاجت واستنكرت


غدر الزمان .


سيدى ..


لازلت أتذكر حسن المقام


ودأبى على المرام


عندما كنت على كتفيك أجلس


وبيديك الحانيتان تحبس


 قدماى


وتضمهما إلى صدرك


وأحسدك على صبرك


كلما امتطيت صهوك


تلف وتدور فى المكان


ولما سرت شابا


كنت لى سببا


للعلم وللحياة إيثار  


ولأمور الدنيا منك استفسر


وأراك تجول وتتفقه ..


وتجود بالجواب


كنت أناقشك كثيرا


وأجادلك أكثر

ولم أع أن فهمك للحياة


كان ثاقبا وللحقيقة أقرب


اليوم أدركت حكمة إصرارك


وكشف أغوارك


وعبقرية أفكارك


وعفوية أسرارك


فتعلمت منك وعرفت 

كيف أقتفى أثارك


من سكوتك لحوارك


وإنسانيتك العطوفة وأفكارك 


وودك للناس منذ نعومة أظفارك


وكرمك وجودك بلا حدود 

رغم ضيق ذات اليد وافتقارك



سيدى ..


لازلت أمطتى جواد قوتك


فأخترق بك الحصون


وأعبر بك البحور


وأحطم بك الصخور


فكيف لاأكون بك فخور


حتى أزهو وانتشى


لعبارات المديح وأفتشى


كلما تواثبت الخواطر من خيالى


أتوهم وهج وجهك المضيئ أمامى


يهمس فى أذنى ويداعب أجفانى


حتى إذا مالت للمنام


أصحو ..


لأواصل رحلة العذاب بمتعتى 


ينصهر وجدى وتذاب وجنتى


عن وجه تلاشى وذهب لوحشتى  


أهرع لرحلة البحث عن الذات  


لازالت ابحث عنك


وعن حضنك الدافئ


ياكبير القدر ياغالى


وكلما توالت الخواطر


أتلذذ بالعذاب أكثر


وأسبح فى أمواج اجتياحى


كى تفيض المعانى


وألقى ماأكتبه على شاطئ أحزانى


نظم الأغانى 


وتراتيل المساء


إننى أكتب فيك كى أرتاح


من كلام شهر زاد المباح


ومابين الرجاء والسماح


جاوزت المعانى حدود المتاح


بكلمات ساهبة مطلقة الجماح


عن أحداث وشخصيات أثروا حياتى


حتى فاض المعين


وأدركنا المسير


فى الوادى اليسير


والكلام المستباح


فملأ الخاطر جنباتى


أما عنك أكتب كى أفرغه


فتسكن أنت وحدك سويدائى


معانقا قلمى وأوراقى


 تحثنى ..


التحلى بالأمل والأمانى


 فتثير مبعث كوامنه فى نفسى


 فأصرخ وجه الزمان أحلامى


 لأنك أنت الذى زرعت الأمل فى حياتى


 وجعلته  واحتى وأمنى وأمانى .



سيدى ..


وجهتنى


أن أكون فى أقسى ظروفى عفيا


تذودُنى وتقول لى كن قويا


شديدالبأس .. سويا


لاتبدو مهزوما ولا مستعفيا


علمتنى الإعتدال


وأخذت عنك الطيبة والكمال


وكيف يكون الوفاء


واستلهمت منك القوة والإباء


وفرقت بين القيمة والبلاء


وأصبحت ألقن أبنائى كلماتك


بفن وإعلاء


فكلماتك نور وقبلة الضِياء


أنت الذى وجهتنى إليها


فأنت موضع القلب فى جسد


لازال يمشى على الأرض .



سيدى ..


إننى أذكرك كل يوم وليلة


بل كل صلاة


ابتهال ودعوات


تفرغ من القلب فجوات


ويطيب الدمع سمحا


والأكف ترجو الرحمات


نسأله وهو الحبيب


ومن غيره يستجيب


وأكتب عن أحوال الدنيا ، وأحوالى


وعن إرث حب الناس فى ذاتى


تركته لى رصيدى وأموالى


وعن مواقف لك فيها بريق ولمعة


فكم أضأت لنا حياتك شمعة


أشاعت لنا نور الأمل فى اللحظات المقبضة


ونور البهجة فى الليالى الحالمة


كنت تحترق كل يوم فى ثبات غريب


تتألم  ولاتصرخ .. فى جلد مهيب


تحترق ولاتأبه بلفحات الزمن الكريب


ورغم قسوتها عليك


علمتك الحياة الكثير


وأخذت منك أيضا الكثير


ومع ذلك بقيت شامخا


تنعم بأجمل مايجود به الزمان لك


وهو قليل


راحة البال


وعدم الخوض فى سير العباد


والصبر على البلاء


حينما تضع رأسك على الوسادة


فى برهة تطيب عينك وتنام


نوما عميقا


حسدك عليها اللآئمون


وعلى نقائك المتفرد


تهامس الحاقدون


فلم تتكلم عن أحد بما يسئ


وإن اغتابك أحد لاتفيئ


فالقول دوما منك سديد


أيها الفذ ذو القلب الفريد


كم كنت جلدا صبورا 


حتى فى مرضك الأخير


كنت تتحلى بوداعة وإيمان


وهدوء النفس والنفيس .



سيدى ..


أنا بعض منك


أسير على أرض الواقع


لاأملك لك إلا الدعاء الصالح


وليكن كل يوم مباركا


ذلك ماتهفهف فيه روحك الوضاءة


وتزورنى فيه ذكراك


تجاذبنى الحديث 

وتحثنى على الأمل


وحب الحياة 

ومواصلة العمل


وأن أصر عليها إصرارا


واتمسك بها انتصارا

وجعلت لى الحياة قيمة


وقدرة واقتدارا 


واختزلت لى تجربة حياتك 


مثالا يحتذى به اختصارا


لاجعلها فى قبضتى 

بصيرة وابصارا


لازلت أمسك عليها أكثر وأكثر


وأحاول قدر استطاعتى 

إصلاح من نفوس الناس شِرارا


ومر الجحود والغل مرارا 


والمضى قدما بلا ملل


خطوات ثابتة إلى الأمام بلا كلل


وأن أجعل قلبى ..


لاينسى الماضى


وينبض بالحاضر

ولايركن لليأس


ويعرف معنى الحب 

وقيمة العشق بالتراضى


وكيف يدق فى صدر الحياة


بلا أهوال أو إعراضى






أبى ..


 ياأجمل أنشودة 

صيغت فى شعر موزون


وبكل الابجديات 

كُتبت فى نثر محكوم


بالإطناب والجناس والسجوع


ستظل فى لوحات خيالى


حلما مرسوم


وفى وجدانى طيرا


للجنان يحوم


سماؤك صافية لم يعد فيها


سحب قاتمة ولاغيوم


وكعهدنا بك ..


لم نشعرفى حياتك


كربا ولاهموم


هندست حياتنا 

وكنت تعانى من سقوم


وتركتنا والقدرالمقسوم


أرانا امتدادا لك 

مع كل يوم صبوح


نستقبلك فى الأفاق 

كحبات الندى ضحوك


وعلى أوراق الورد 

نجدك لؤلؤا ونجوم


سيظل هذا القلم فى حقك


يكتب ويجود 


حتى إذا مانعانى ، يغيب


وختاما يانبع الكرم الصافى


ياذا الوجه الطيب النجيب



قبل أن أهم بلم قلمى وأوراقى ، حيث أرسم الكلمات الأخيرة فى هذه السطور ، اسمح لى أن أدعو لك أنت وأمى الغالية بأن يتغمدكما الله بواسع رحمته ، وأن يكرم نزلكما ، وأن يغسلكما بالماء والثلج والبرد ، وأن يفسح لكما فى قبركما ماكان مد البصر ، وأن يجعل قبركما روضة من رياض الجنان الفردوسية ، إنك سميع مجيب الدعاء يارب العالمين ، اللهم آمين .. اللهم آمين .. اللهم آمين ، هذا دعائى لكما ، ليس الأول ولا الأخير .


أبى الغالى .. أمى الغالية ، وحشتونى