كلاسكيات مصرية

الجمعة، 20 سبتمبر 2013

اسكندرية .. أيام وليالى ( الجزء الأول )



عند البحر .. كان موعدنا
الإسكندرية كعادتها فى الصيف ممتلئة .. ملتهبة .. الناس يملأون الشوارع والأرصفة .. سيدات ، فتيات ، رجال ، شبان ، وأطفال ، كلهم يقدرون ويعلمون مدى هذا الجمال الساحر ، ويريدون ألايعرف لهم اتجاه ولاهوية ، غير الانتماء لهذا البحر الضاحك المرح . إن أروع إحساس بالسعادة حينما أتذكر أيام وليالى الإسكندرية .. ماأجمل أيامها .. وماأحلى لياليها كلما مرت بفكرى .. لازلت أتذكر شاطئ المعمورة بصخبه وهدوئه وكل شيئ يسود المكان : السماء الصافية .. هواء البحر .. الاضواء .. الليل وضحكات الساهرين ، مازلت أتذكر مغامراتى الصيفية .. كلها كانت مواقيت محفوظة للأصدقاء والفتيات ، وكثيرا ماكنت أدرك بومض الخاطر وأنا اخطو عبر الموج ذلك الشعور اللامتناهى الذى يربطنى دائما بالبحر وعشقى له وجذوات الحب المتوهجة وغناء عبد الحليم وفيروز ، حتى أصبح هذا الرباط قدرا ومصيرا يمثل لى نقلة نوعية كبيرة فى مسار وجدانى مع الأيام ومع مدينة الاسكندرية ، لازلت حافظا له .. متمسكا به .. وقابضا عليه حتى الأن ، وكلما حللت عليها ضيفا يعود وينشط من جديد مثيرا بشوق ولهفة الارتداد إلى ماوراء الأحلام .. فتعود كل الذكريات دفعة واحدة ، بعبق الزمان وشجن المكان .. بإيقاعات كلاسيكية تعطينى شعورا لذيذا يدغدغ القلب ويملك الفؤاد وينعش الروح وخاصة إذا ماصحبتها غنوة فيروز السكندرية ، فتهيج الذكريات .. كل الذكريات الجميلة من هجر الليالى لتلاقى الأمانى :
شط إسكندرية يا شط الهوى
رحنا إسكندرية رمانا الهوى
يا دنيا هنية وليالى رضية
أحملها بعينيه شط إسكندرية
البحر ورياحه والفلك الغريب
يحملها جراحه ويرحل في المغيب
يتمهل شوية و يتودع شوية
وتعانق المية شط إسكندرية
ليالي مشيتك يا شط الغرام
وإن أنا نسيتك ينسانى المنام
والشاهد عليه غنوة مارية
والنسمة البحرية وشط إسكندرية
الله ، الله ، الله ماأجمل هذا الصوت الملائكى المتموج على البساط الفيروزى السحرى بلونه الأزرق ، إننى مازلت أتذكر وداعة البحر كلما اتجهنا نحوه ومداعبة زبد أمواجه لأرجلنا كأنه طفل يلهو بعفوية .. مازلت أشعر بجمال ونعومة الجو ورقة نسماته البحرية الساحرة التى تتسلل إلينا فى رقة وحنان ملاطفة للأشجار المترامية بطول الشاطئ الممشوق والممتد أمامنا بمساحات من الذهب المفروش كبساط ، تناغم من طبيعة خلابة تكاد من حنانها أن تحتوينا أو تضمنا فى أحضانها . بانوراما معقودة يوميا بولع الشباب وبهجته وانطلاقاته : " يا أحلى شمس وأحلى رمل وأحلى ميّه ، إحنا وشبابنا وحبّنا يا اسكندريّه ، جايين على نسمة أمل نرتاح شويّه ، والحر زى الشّوق نهاره وليله قاسى" . كان الإحساس بإيقاعات الاسكندرية ينتقل للناس عبر الشوارع والطرقات إلى النفوس والأجساد .. إلى السمر والأغنيات .. ينتقل لكل قلب ينبض وينتفض مشحونا بالحنان والشجن والألحان .. ينتقل لكل نفس تواقة للحب بعبارات أصواتها هامسة تتودد ، مشوبة باللهفة كعناق ، فكل شيئ كان دائما مهيئا لاستقبال دفقات التمرد على تبعات رتابة الحياة المسورة بهيمنة العمل ، والتوارى عن العزلة المقنعة تحت وطأة المشغوليات ، والإنطلاقة من كبت العواطف وتغريب المشاعر وإخفائها عمدا حتى على إنسان المشاعر الكامن فى وجدان كل واحد منا كحلم يقظة وصوت رافض ونداء داخلى يصرخ مطالبا بتجدد دم الحياة . 
كنت أظن أننى وحدى من يعيش هذا الإحساس ، ولكن اكتشفت بل وجدت أن هناك الكثيرين مثلى ، وأننى مجرد واحد من هؤلاء الذين يعانون ويندفعون دفعا ويطردون طردا كل ماينوء به كاهلهم من هموم ويلقونها على شواطئ الاسكندرية . فما أن تطأ قدماى الاسكندرية حتى تتلقفنى أولى نسمات هواء البحر المنعشة فتغمرنى وأحس أننى أغتسل ، وأجذب نفسا عميقا من داخلى بكل رئتى ، أطرد به تعب العام وأحس معه بحرية الحركة وخفة الخطوات ، وأود كما لو أطير وألاعب هواء البحر،. كنت أود ألاأرى أحدا ولاأعرف أحدا ، ولاأريد أن يعرفنى أحد ، كنت بين الناس ولاأحسهم أو حتى أراهم أو أريد ألاأراهم ، دائما أجدنى منساقا برغبة خفية عميقة فى تغيير نمط الحياة الذى تعودت عليه بحلوه ومره هنا وفى غفلة من الزمن . أتذكر أن المقابلات العاطفية كانت فيما مضى هى الملاذ وهى أولى خطوات التغيير أو الأدق الرغبة فى التغيير ، مازلت أتذكر حينما تمتد خطواتنا الموازية للأمواج بطول الشاطئ ، لا نشعر إلا همسا .. ولاأحد يرانا ولانرى أحدا .. نعانق ضوء القمر ونمرح مع كل طلعة شمس .. كانت هى منتهى سعادتنا التى دوما كنا نحلم بها .. كنا نجعلها فى قبضة أيدينا ، ونسابق بها أرجلنا ، وفى عبير متنفسنا ، وفى حلو مأكلنا ، وفى لذة شرابنا .. نتنقل بها بالنهار فى كل مكان ، ونسير بها بطول الشاطئ فى المساء ، كنا نجدها فى مجلسنا وفى ممشانا ، كنا نمشى كثيرا ولانتعب ونضحك من قلوبنا ولا نسأم ، كنا لانعرف الهم والغم والتكدير والضجر والكآبة .. بل نعيش نشوة الحياة ونقدر قيمتها ، دون مايعكر صفوها . ذكريات وحكايات كثيرة تفيض رومانسية وحب .. عشتها واكتويت بنارها مع حرارة كل صيف . بيد أنه لايمكن التصور بأننى تحولت فجأة لـ "دون جوان"عصره وأوانه ومحطما قلوب العذارى ، فحقيقة الأمر أن الخجل لم يبرحنى كلية ، فكثيرا ماكنت أتعثر فى بداية أى علاقة حتى تمر على كل المنعطفات الكثيرة المشوبة بالتردد والحذر وعدم التوفيق بسلام ، فطبيعتى تفرض نوعا من السياج النفسى حول تعاملاتى وعلاقاتى الخاصة تُحول فى كثير من الأحيان دون إتمام نشوء بعض هذه العلاقات ، لأنها كانت ولازالت وجدانية أكثر منها اجتماعية . وربما هذا دفعنى فيما بعد إلى الإهتمام بكيفية تحويل المشاعر إلى طاقة ملهمة وأن تكون لها القدرة على الوصول للأخر وهذا شأن أخذ الكثير من الوقت والجهد بتجارب كثيرة نبهتنى إليها الأن الفجوة التى وضعت نفسى فيها وأضاعت علىّ فيما مضى الكثير من الفرص فى اكتساب معارف أكثر وأكثر ، مما أشعرنى الأن بما يشبه الضيق يطبق على أنفاسى ويكاد يخنقنى مخافة تكرار موقف لايرضينى ، أو أجد نفسى فى موضع حرج ولو كلفنى ذلك مالاأطيق .
إنه الحاضر حيث وقْع الموقف ، شعرت وكأن قلبى يريد أن يذكرنى فأخذ يدق على عقلى من جديد منبها ومحذرا .. إنه أول موعد معها ، وأنه جاء بعد عناء ولكن بطرق جديدة تماما اختصرت الكثير من المشاعر ووفرت أبسط الطرق للتعبير عنها وكيفية وصولها للأخر .. طرق تناسب روح العصر وتجلياته فى التواصل الاجتماعى ، أما المكان فقد تم الإتفاق عليه بأن  يكون هنا فى نفس المكان بالمعمورة ، فكان لى أن أعود مسرعا لأرض الواقع وعلىّ أن أطرد كل ماقد يعترينى من فكر الاحتمالات ، لأفكر فقط فى المستقبل القريب أو اللحظة الحائنة التى ستأتى حتما وفى التو ، وأضع حدا للتخيلات التى طالما لعبت بعقلى فى تصوير الموقف وردود أفعاله إذا جاء مغايرا ، وعدم الإكتراث بالهيئة التى ستبدو هى عليها ، حتى لاأبالغ بارتباط ذلك بإحساسى الذى فرضه قلبى .. والذى صوره لى عقلى ، على إنها شخصية مختلفة . وخاصة أننى أحسست من خلال محادثتى معها هاتفيا أنها نوع من الشخصيات التى تملأ العقل والقلب ، وتظل تقترب منك لتستولى عليك ، حتى ترى من خلالها الدنيا ، فهى تشبه العدسات اللاصقة حينما تلتصق بالعين .. فتكون هى نفسها العين ، إن شوقى يسبقنى لرؤيتها ولاأعرف عما إذا كان هذا الإحساس سيزداد أم سيقل ، لحظات مضطربة أعيشها الأن مخافة أن يأتى الواقع بمالاأشتهى وينسف كل ذلك ويأتى بالمشهد على عكس ماتصورت ، حتى جاءت .

عرفتها من الهيئة التى كانت عليها فى ذهنى .. ومن تحسسها أشكال الناس لتنتزعنى من بينهم ، أصعب لحظات التعارف . أقبلت متوهجة ، كل شيئ فيها صارخ ، الجمال وثبات الخطوة والثقة بالنفس ، أحسست بخجل شديد كما لو تمنيت أن انغض رأسى على صدرى ، وأتوارى بين المارة ، ولكنها رمقتنى .. عرفتنى ، ربما من حالة الارتباك الشديدة .. أو من النظرات الحائرة الشاردة التى كنت أبدو عليها ، همت هى بالنزول من سيارتها وأطلقت لساقيها العنان صوب مكانى . تعلقت عيناى بخطواتها .. بدقات قلبى الملهوف المتشوق ، كانت تزداد بإزدياد توترى ، مرة أخرى أحاول أن استعيد انضباط نفسى ، حتى أصبحت أمامى تماما ، لامفر .. لحظة واحدة فارقة أذابت كل جبال الجليد المتكاثف فوقى عندما قالت : عصام مش كدى برضه ، فأومأت لها بإشارة تفيد بأننى هو ، ثم قلت لها نعم بتردد . ولكن لماذا هذه الحالة التى أبدو عليها ، وكأننى لم أكلم فتاة من قبل . حاولت استعادة جرأتى فى الكلام : كيف عرفتينى ؟ قالت : أنا موجودة معاك أنسيت ، لقد اعتدت عليك من كلامك .. عرفتك من انطباعاتى التى كونتها عنك عندما كنا نتحدث هاتفيا ، قلت : معقول لهذه الدرجة ، قالت : نعم معقول جدا أليس هناك شيئ اسمه شفافية . واستطردت : لكن لماذا أنت خجول بهذا الشكل ؟ أين كلامك الجميل ؟ وأين صوتك الحنون ؟ أين رنة ضحكاتك ؟ . كنت أحاول أن اتوارى عنها متجنبا نظرتها الحارقة ، فأنا على ماأبدو متلعثما ومرتبكا لاأجد بعد ماأرد به على كلامها ، ولم أجد سبيلا غير أننى استدرت إليها ، ودعوتها دون كلام للسير تجاه البحر ، وانساقت معى نحوه بلا تردد ، ومضت خطواتنا العابسة دون تحديد كيفية المسار غير أننى أحسست فى صحبتها نغمات ساحرة تسرى حولنا من وقع خطواتها .. ورقتها العذبة ، وحنانها الذى لاحدود له ، فما نلبث أن نجلس حتى نتنقل إلى مكان آخر .                                  

كنت أريد ألا أستقر فى الأرض أو أجلس فى مكان واحد ، بل كنت أريد أن أدور حولها وأجوب كل أماكنها ، ثم ارتفع لأعلى وأسبح فى الهواء وأطير فى كل الاتجاهات ، ثم أهبط وأغوص تحت الماء وأصل لأعماق البحار وأعماق البشر أيضا ، حتى أجمع السعادة من أطياف الدنيا وشتات العالم وأودعها قلبها ، كنت أشعر بحاجتى بأن أملأ صدرى أولا من هذا الهواء النظيف قبل أن أتحدث معها فى أى شيئ ، فأكثر مااعتدت عليه هنا وكان يلفت نظرى دائما أن كل شيئ نظيف .. كل شيئ يبدو كما لو أنه مغسول .. الأرض والهواء والسماء ، نعم الحياة هنا رائعة بذاتها ، والمدينة تصبح عالما من السحر عندما يحبها المرء ، وأنا أحب وأفضل هذا المكان ، فهو مستودع ذكرياتى وأحلامى وابتساماتى ، إننى أرى الدنيا كلها كما لو أنها اختزلت فى هذه البقعة الرائعة من أرض الإسكندرية ، ياله من إحساس رائع  استعيد معه الأن كل ذكرياتى .  
                                                                                     
كنت حينما أرنو لوجهها المشرق الذى أطالعه من حين لأخر وهى بجانبى اختلس نظرة سريعة لعينيها الجميلتين ، فاتذكر  الفتيات والنساء الجميلات اللواتى أرتبطت بهن هنا بقصص الحب المثيرة ، حيث كنت أسير معهن فى هذه الطرقات وأتذكر تعطر ضحكاتهن المكان برشاقتهن اللاتى كن يبدينها بثيابهن الأنيقة الجميلة وتماوج شعرهن مع هواء الليل الخفيف ليشتد بعد ذلك مع مرور الساعات الليلية إلى حد التطاير كأنه الطواحين فأمد أناملى كى أعيد ترتبب ماأفسده الهواء وكن يحببن هذا ويستطبن له ، أه لو كانت مثلهن ، إننى لاأراها إلا عبرهن فأرى المكان وقد عادت له الحياة من جديد بروح تواقة ونفس مشرأبة وقلب أخضر صغير ، فأكسبته الحيوية وأضفت له جمالا فوق كل جمال وحبا فوق كل حب ، وإحساس رائع يرتقى إلى كل شيئ هنا فى الإسكندرية بسعادة غامرة ، يعمه الهواء النقى والضوء المبهر والماء الأزرق الصافى ومتعة السير على الشاطئ .. والسعادة دائما ترتبط  بلذة الحياة ، والحياة رهن للذين أحبوها، ومدينة للذين قدروها ، وعاشقة للذين أرتقت أنفسهم وتفاءلوا بها ورأوا أن البناء أهم من الهدم ، والتسامح أعمق من الكراهية ، وعزة النفس أفضل من الحب إذا كنا لانعرف له اتجاه أو نجهل إحساس الأخر . ياه إلى هذا الحد كان شرودى ، لقد انتبهت برهة حيث طالعتنى بنظرة طويلة ثابتة ، غاب فيها المعنى المحدد : مساء الخير نحن هنا ، أنت رحت لفين . اربكتنى كلماتها ، اكتفيت بهزة من رأسى ، وتذكرت مشاغباتها التى كانت لاتخلو من أحاديثها لدرجة أننى كنت لاأفرق بين الجد والهزل منها ، وكانت هى لاتدرى لماذا ، ولكن فى النهاية كنت أجد نفسى مستريحا لها ، بل واستعذب كل ماكانت تفعله معى من شقاوة ، تنهدت قائلا لنظرة الدهشة التى لمحتها فى عينيها : لاأبدا يعنى هروح فين على الأقل وأنا معك ، ثم استرقت نظرة لامحة إليها مخمنا ، ياترى هل أحست معاناتى ؟ وهل سمعت تنهداتى التى بدت واضحة على نبرات صوتى ؟ ياترى شعرت بى أم لا ؟! لاأعتقد ، وكان هذا مبررا للعودة إلى انشغالى بحالى مرة أخرى لأسأل نفسى مجددا ، ماذا أصابنى ؟ لاأعرف ، غير أننى فى هذا الوقت أصبحت فى غاية الحساسية ، وفى غاية الحزن أيضا ، إن نظرة واحدة من عينيها جعلت بعضى يذوب فى بعضى .. وجعلت عينى تبكى على قلبى .. وقلبى يئن على عقلى .. وعقلى يشفق على نفسى .. ونفسى ترثى حالى ، والقلب الذى لايئن ليس قلبا .. والعين التى لاتدمع ليست عينا .. والنفس التى لاتعشق وتحس ليست نفسا . آه من عيونها وجمالها .. وصوتها ونبراته .. وآهاتها وتنهداتها ، جاء تفكيرى بالشيئ الذى أحيته بداخلى وعلق بجدران قلبى .. قلبى الذى أحسها بعمق منذ أن تعانقنا بالكلام لأول مرة ، إنه أشبه بالحلم .. حلم جميل لاأريد أن أفيق منه .. حلم امتد منذ بداية التعارف ، مرورا بمحادثتها هاتفيا ، ثم بهذا اللقاء الكاشف لإنسانة تتمتع بهذا الحضور الطاغى الكبير ، وثقة بالنفس عالية تنطوى على شخصية قوية و رشاقة وأناقة و جاذبية .. ثم إلى أحلام حقيقية .. ثم إلى الورق والقلم ، آه لو تحول هذا الحلم لحقيقة ، إن كلمة واحدة عندى تكفى لو نطقتها .. كلمة واحدة معناها قصة طويلة عريضة ، معناها بداية خيط لمجموعة من المشاعر المختزنة ، خيط من بكرة كبيرة اسمها من حرفين ، الحاء والباء ، بداية طرفها عندى ، والبكرة كلها عندها ، كثيرا ماكنت أتعجب لقدرتها على الكلام والتعبير وسرعة البديهة وردودها الحاضرة . لذلك لم أفاجأ بها عندما قاطعت لحظات الصمت الطويلة التى فصلتنا عن مواصلة الحديث بقولها : لماذا لاتحدثنى عنك .. عن نفسك .. عن احساسك ومشاعرك تجاه أى شيئ تحبه أو حتى تكرهه .. لماذا هذا الصمت الذى يزداد من ورائه غموض شخصيتك فى حين أننى لاأجد مبررا لذلك ، هل تريد أن أظل أبحث عنك باستنتاجات ماوراء كلماتك حتى لأصل لشيئ أعرفه عنك ، لماذا تتعمد تركى للألغاز وتصعب على الموقف . والحق لست أدرى لماذا صعبت على نفسى حلو اللقاء .. وحلو الحديث ، ولكن هناك أشياء تداخلت فى نفسى أما ولماذا وكيف ؟ فإننى لاأعرف .. لاأدرى .
لكن مع الوقت وطول الطريق جعلا للحديث معنى . فجأة تلامست أيدينا ، كانت مصادفة .. دون قصد ، لكن ثمة شيئ لاأتبينه تحرك بداخلى . حاولت ملامسة يدها ثانية ولكن هذه المرة عن قصد . فسحبتها بامتعاض ، ووجدت نفسى أتراجع بعد أن اربكت نفسى ، بل لابد أيضا أن يكون وجهى قد أحمر تماما وقلت لنفسى : ماكان هناك داع لتجربة بلا صدى . أما هى فلاحظت ذلك فكانت تحاول بكلامها المتواصل أن تزيل عنى ظروفى المحيرة التى وضعت نفسى فيها . جمال النسمات الممتزجة بهدير الأمواج واختلاط رائحة اليود بالملح ، وأصداء الناس حولنا حولت أحساسى رويدا رويدا لروح التواصل من جديد فى ظل ابتساماتها السخية المشجعة التى كانت تملأ وجهها كله ، ومع حلو الحديث أحسست بهذا الشعور الغريب ينمو .. ولكنه أوجع قلبى وفكرى .. حيث وجدت نفسى قاسيا وأنانيا ، أحسست بأننى فى الحب يجب أن أكون لصا وشريرا .. أتسلق جدران قلبها كى أفتح خزانته وأضع نفسى فيها بالقوة ، وأستحوذ عليه عنوة .. تمنيت أن أنال حبها ولو بالسطو والقسوة .. وأردت أن أصل لقلبها ولو بالاحتيال والسرقة ، ظل هذا الاحساس المتولد من الموقف يزداد ويتنامى مع كل دقيقة تمر وخاصة أنه صادف مزامنة ومعانقة كلامها الجميل .. الخفيف على القلب .. اللطيف على اللسان ، له بريق العينين ، ونعومة الخدين ، وجمال القوام ، وامتدت يدى إلى يديها لكن دون إرادة منى ، فهى التى تحركت صوبها وكان رد فعلها مغايرا هذه المرة ، صمتت ولم تتكلم ولم تبتعد .. فتشابكا وتآلفا وتعانقا وتهامسا .. وانشغلنا بأنفسنا دون كلام ، وتركنا العالم الخارجى إلى عالمنا الخاص .. عالم أزال عنى ماكنت أنوء بحمله عند بداية اللقاء الذى جمعنا معا لأول مرة ، فكان الكلام والوفاق ، حتى أدركنا الوقت والمسير ، وكانت نهايته ، بعد أن سرنا معظم الطرقات وعرجنا على كل الشوارع .. الشارع تلو الآخر ، حتى وجدنا أنفسنا أمام بيتها بسموحة فهمّت تستأذننى ، لقد استغرقنا الوقت والطريق ولم نقدر الزمن ولا طول المسافة ، ولكنها كانت خطوات مرت كأنها برقة خاطفة . تذكرت فأسرعت خطواتها بتلقائية وفى لهفة للإتجاه المعاكس : عصام لابد من العودة للمعمورة ، قلت لها متعجبا : لماذا ؟ قالت : نسينا وتركنا السيارة هناك .                                                                                           وإلى اللقاء الثانى
                   
مع خالص تحياتى :عصام

   القاهرة فى سبتمبر2013