كلاسكيات مصرية

الاثنين، 17 نوفمبر 2014

أنا .. ومعانقة الكلمات

دائما فى خواطرى أكتب أشياء صغيرة ، أحاول أن أخرج منها بمعانى كبيرة ، وحينما فكرت أن أكتب مذكرات لم أوفق ، وجدت أن المذكرات ماهى إلا حوارات خاصة بأحداث حقيقية مختلطة بظروف نفسية معينة ، بالنسبة لى لم أجد فيها مايغرينى على الكتابة رغم أننى حاولت وأنا فى مقتبل العمر أن أسجل بعض المواقف المؤثرة فى حياتى ولكنى فشلت ، ربما وجدت فيها مالايستحق أن أكتب عنه ، وإلى الأن لم أفكر معاودة تجربة الكتابة عن أى شيئ يخص حياتى ، رغم أننى مررت بأحداث كثيرة أثرت فيها وغيرت اتجاهاتها ، ومنها مايستحق الكتابة عنها سواء عن مواقف أوشخصيات كانت أو مازالت تجوب حياتى سواء بالمصادفة أو عنوة أو باختيارى والوقوف عندها والتأمل فيها بشئ من التدبر فيه شيئ من الإمتاع على الأقل لنفسى ، ولكننى لم أفعل . غير أننى بدأت أفكر فى كتابة وتسجيل مايدور به حديث النفس عن أى شيئ يستحوذ على خاطرى .. وفى كل شيئ يحرك إحساسى .. وعن أى شيئ أرى أنه يستحق أن أنثره على أوراقى من كلمات سواء فى الحب .. الفن .. الأدب .. السياسة ، وأجد متعة كبيرة عندما أكتب عن بلدى مصر .. تاريخها .. شوارعها .. ميادينها .. دروبها ، حكاياتها ، أضطربت كتاباتى كثيرا عندما وقعت مصر أسيرة التخبط ، وانزلقت فى بئر من الفوضى ، وعبرت عن خوفى وقلقى البالغين تجاهها وعما ستواجهه من أخطار مابين ثورتى 25 يناير  و30 يونيه ، وعزفت عن الكتابة إبان حكم الإخوان وأحسست بمرارة تزُم حلقى وأنا أرى مصر التى حماها الله تتلاشى وتضيع هباء كالماء السارب من بين أيدينا على يد غزاة العقيدة وعراة الفكر تحكموا فيها باسم الدين وأخرين من متخلفى الثقافة وخونة الوطن من الليبراليين والعلمانيين أرادوا طمس هويتها العربية والإسلامية فى غفلة من الزمن ، ثم عاودت الكتابة مرة أخرى بعد ثورة 30 يونيه التى أعادت البسمة لتعلو الوجوه ، ويعود لمصر مجدها وعزها وكرامتها ، فعاد لها وجهها المضيئ المشرق الذى يعرفه القاصى و الدانى ، ليؤكد للعالم كله حضارتها وتاريخها العريق .
 

المهم أن أشعر بالصدق فى كل ما أكتب ، وأعرف عما أكتب ، ولماذا أكتب ؟ وأن الذى أكتبه ذا قيمة .. سواء كان مجتمعيا .. إنسانيا ، أو نفسيا ، ولاخلاف عندى فى الشكل الذى يحتوى كلماتى ، مقالة كانت أو نثرا .. شعرا أو خاطرة .. قصة أوكلمات متناثرة من هنا أوهناك تجمع شتات النفس فى اللحظة التى تحلق فيها بعيدا عن أرض الواقع وتغرد خارج السرب ، لذلك سألت نفسى سؤالا محددا هل أجد نفسى فيما أكتبه وهل هذا يحقق لى متعة ؟  الإجابة عندى كانت تلقائية وواضحة : نعم ، وهل لها هدف آخر ؟ : لا ، هل كنت أتوقع نشرها يوما ما ؟ : أبدا ، إننى لم أكن أتصور أنه سيأتى يوم أعرض فيه أفكارى وإحساسى ومشاعرى وآلامى للآخرين ، كنت لاأملك لنفسى وعلى مدى أيام عمرى سوى أن أقرأ كثيرا ، وأكتب قليلا .. أدون ماأود كتابته فى وريقات وأضعها فى ملف خاص ، والفكرة هنا أن الكتابة موقوفة على إحساس بما أود كتابته . وليس فى أى وقت تتوفر عندى دوافع هذه الرغبة ، ولكن عندما تلوح فى أفاقى فكرة معينة بإحساس خاص أجد الرغبة تدفعنى بتلقائية فى أن أجلس مع نفسى وأمسك مداد قلمى وأسرع فى تدوينها . واضعا فى اعتبارى أن كلماتى فى النهاية وإن كانت تعبر عن ذاتيتى إلا أنها لن ولم تكن إقرارا منى بمذكرات حقيقية ، بل هى مجرد وقفات متجاورة من نتاج نفسى محض يجمعها رابط واحد هو ملخص لكلمة أنا ، الحركة فيها تجعلها خطا واحدا متصلا .. تجعل فيها تدفق وحياة غير ملتبسة بالواقع الحقيقى لحياتى ، تماما كالشريط السينمائى إذا نزعنا منه ديناميكية الحركة نراه مجرد صور متجاورة ومنفصلة لاتوجد فيها نبض حياة ، ولكن إذا دفعنا الصور وأعدنا ديناميكيتها دبت فيها الحياة وأصبحت مليئة بالحيوية والحركة وتفرز لنا مواقف كثيرة وانفعالات ، قد تكون مثيرة ومشوقة ولكننا سنجدها ممتعة ومؤثرة أيضا ، ولا أقول إن كل ماأكتبه هنا فيه شيئ من الإثارة أو المتعة بقدر ماتحمله من الصدق وأمانة الكلمة التى أحاسب نفسى عليها كثيرا ، وفى نفس الوقت لاأدعى أننى أستطيع أن أعيش دون خيال أوأحلام ، فأحيانا الخيالات والأحلام تملأ الفراغ الكبيرالتى تشغله مساحات واسعة من حياتنا ، فكما أسمع وأرى .. أتخيل وأتصور ، والتصور له أبعاد واسعة المدى والخيال إدراك الأشياء بطبيعة مطلقة لعنان النفس .. ليس لها حدود ، نتعايشها بتصورات ذهنية معينة لانملكها فى أيدينا ، تتسع وتضيق وفقا لطبيعة الإنسان وفلسفته للحياة . فى كتاباتى اتوكأ عليها وأملكها بطبيعتى الرومانسية فأتخيل كل شيئ أنا أريده وعندى المقدرة على تصوره وعندى القدرة أيضا على التعبير عنه ، وفى النهاية أجد نتاجا من كلمات تشكل وجدانى كإنسان .. عالم خاص جدا أجد نفسى فيه بل وأحتمى به .. عالم منسوج من خيال فيه شيئ من الواقع أو من منظور حقيقى ، يمكن أن أخلص فى تسميته بالمعادل الموضوعى لطبيعة حياتى .. لذاتيتى خاصة عند الأحساس بوجود ثمة إخفاقات ، وكم من إخفاقات واجهتنى فى الحياة وكيف كانت معالجتى لها لتتصوروا مدى المعاناة التى كنت أحسها عند كل إخفاقة ، والإخفاقات نتاج مواقف سلبية لأفعال جاءت على عكس المتوقع مترتبة من مردود حِراك الناس الذين ارتبطنا بهم فى حياتنا ، لم تكن موقوفة على خطأ تقدير مواقفنا معهم فقط ، بل وأيضا على عدم استطاعتنا تفهم حقيقة أغوار أنفسهم حتى ولوغصنا فيهم وتأملنا تصرفاتهم  جيدا ، لأن النفس هى ملك لخالقها فقط ، هو الذى يعرف سرها وأغوارها .. مستودعها ومستقرها ، وعليه بات من الصعب على أى إنسان أن يعرف حقيقة كاملة فى هذا الوجود .. أو يعرف إنسانا معرفة جيدة ، فإذا تقابلت مع إنسان ووجدت نفسك تحبه ، فأنت تراه ولا تراه ، وإذا وجدت نفسك تكرهه .. فأنت تحب ألا تراه ، فكيف ستعرفه ، لذلك فالذى يحب كالذى يكره ، لايرى بوضوح ، ولكن طبيعة الحياة تجعلنا نحب ونكره ، لذلك فأنت لاتعرف الناس جيدا مهما حاولت ومهما كان تقديرك وتقييمك لهم ، وفى حياتنا بشر قريبون وبعيدون ، قد يكون أقرب الناس إليك أبعدهم عنك ، وأبعدهم عنك أقربهم منك ، ولذلك لن تعرف للناس حقيقة واحدة فى الواقع ، أما فى الخيال فالوضع يختلف فهو قمة الإبداع أو الخلق النفسى لمواقف وشخصيات وجدانية بحتة تشكلهما وفقا لإرادتك ومن واقع مثاليتك أنت ، ومحاولة التأرجح بين الاستوحاء بخيالنا لرؤى وأشياء قد تبدو مثالية وفى ذات الوقت لم تكن بمنأى عن هذا الواقع ، عملية توافقية صعبة ومعقدة شديدة التعقيد عند إجرائها ، لأن منطق الأشياء هنا يحكمنا ولايستطيع العقل مهما تجاوز فى تخيلاته أن يتعداها .
 إذن نحن لسنا أحرارا فى تخيلاتنا ، فهناك ثمة ارتباطها بواقعنا أيضا ، وبالتالى يمكننى أن أخلط الواقع بالخيال بطفرات محدودة مستغلا ازدواجية الصور المختزلة فى العقل بوضعها على أرض الواقع فى الأشياء المحيطة. فيخضع الواقع الحقيقى لخيالى ورغباتى الخاصة مستغلا قدراتى النفسية بتلقائية فى التعبير ، وهو أشبه بما يعرف "البارانويا" وهو مصطلح فنى يقصد به استغلال العالم الخارجى لتصوير الفكرة التى تتسلط على العقل . حتى تتفوق تلك الفكرة على كل الحقائق الأخرى بهذا المنسوب ، لنجد فى النهاية أن الحقيقة التى توجد فى العالم الخارجى ماهو إلا انعكاس لصور وأشكال للحقيقة حسبما نراها فى داخلنا ، ومن هنا استطيع أن أصور حقيقة ما بمنظورى النفسى ، أى استخدام الصور الخارجية كما أحسها أنا .. بتفاعل إحساسى الخاص .. بكل مافى داخلى من رغبات كامنة فى نفسى التى توحى بها ، وهذا هو الذى يجعلنى أحيانا ألجأ لتمازج الخيال بالواقع ، فى منظومة فكرية بتعبيرالذات ، أو ببصمة الكاتب .. أو بمشهد يهزنى ويلح على فى رسم خطوطه فألجأ إلى أقرب ورقة وأبدأ فى وضع هذه الخطوط حتى تصبح فى النهاية شيئا له مردود فنى أو يقرأ معنى ما فى داخلى ، أى لوحة فنية برؤيتى الخاصة ، هكذا يكون حال كتاباتى ورسوماتى .. تعلمت من قراءاتى الكثيرة .. وأيضا من متابعتى لما يدور حولى من معارض فنية وندوات وجلسات ، واستفدت كثيرا بمن حولى ، وأيضا بمن يرتبط بمن حولى بالمعايشة ، الصداقة ، الحب ، التأمل ، والتأثر ، أى مجموع مشاعرى ، حبى ، كرهى ، مبالاتى وعدم مبالاتى ، وأيضا مايتفق ومالايتفق بطبيعتى ومزاجى العام والخاص ، إننى هنا أضع تقريرا عن حالى وقت الكتابة أو وقت الرسم على حد سواء أيهما أو كلاهما سواء بالمباشرة ، أو الخيال ، أو استخدام الرمز ، أو مزيج من كل هذا ، إن الذى يعرفنى سيفهمنى من كلماتى أو من هزة ريشتى على لوحاتى . واسمحوا لى أن أقرر هنا أيضا حقيقة واضحة المعالم ، أننى واحد من الذين يكتبون بوازع الحب وبكوامن مشاعرهم ، حتى لو كانوا يتكلمون فى أى شيئ آخر غير الحب .
لاأدرى سببا لكتابة هذه السطور ، ولكن دعتنى الظروف لذلك ، فوجدت أنه من الضرورى جدا أن أوضح نفسى ، حتى أبدو للآخرين كتابا مفتوحا يتفهمون ويفهمون حقيقة أمرى ، أن ماأكتبه هو من واقع ذهنى ونفسى ، وليس إقرارا بواقع عشته ، صحيح قد تكون هناك أحداث حقيقية ، ولكن معالجتى لها فى كتاباتى تختلف شكلا وموضوعا .

هكذا أكتب ، ترافقنى نفس عذبة ، ميالة للرقة والنقاء ، والسمو والجمال ، وتلازمنى روح تواقة ، حساسة عاشقة ، سمحاء حالمة ، فيجوبان معى الطبيعة ، يحدوهما الأمل ، مع كل نبضة فجر آت يحمل معه فرحة عيد ، مع كل إشراقة شمس تنطلق من جديد ، مع روعة استقبال قطرات الندى لأولى نسمات النهار ، مع عذوبة الشفق وجمال شمس الغروب وهى تجوب الآفاق ، تودع النهار تاركة للقمر وهمسات المساء وجمال الليل الباح والإبداع . إنها نفسى عاشقة القلم ووحى الغسق وقت الغروب على ضفاف النيل ، وروحى التواقة لكل جديد تستشرف الحنين والسهر كل ليلة دأبا بفرحة نجوم الليل واستصحاب بدر السماء فى جنبات الوادى السحيق ، يظلا ملازمانى لحياتى فتمضى بهما ومعهما لحظة بلحظة ، قد يغفوان بين تقلبات الفصول ،  لتبق أحلامهما الوردية دفينة ، تنتظر مجيئ الربيع بوشوشة نسماته الطيفية عندما تأتى خفيفة فيهبا معها ليلهوان ويمرحان ويداعبان موج البحر فتتلألأ صفحاته .. وتشيع البهجة على بساط العالم أخضراره ، ثم يستلقيان سحابة بيضاء شديدة النقاء تفتح لهما أحضانها مد السماء لم يدنسها أى غبار .. ولم تلوثها أية أحقاد ، حتى تصطدم بواقع مرير فتفقد تماسكها ، وتسقط حباتها رخات ورخات ، فتغسل قلبى وعقلى معا لأبدأ إنطلاقاتى من جديد .




مع خالص تحياتى .. عصــــام

القاهرة فى نوفمبر 2014