كلاسكيات مصرية

الأربعاء، 4 نوفمبر 2015

خطوات على طريق الله ( الجزء الأول )




الحياة أيام ، نعيشها فى الدنيا جريا وفى دروبها نحاول .. نفلسف خطانا وننتهج .. قد تأخذنا ونغفو وأحيانا ننسى ، ولكن النفس تعود وتجاهد الخير بالشر ونبقى فى رحلة السباق مع الزمن والحياة . حتى كتبها الله لنا وذهبنا إلى هناك ووقع البصرعلى البيت وكنا قبلها فى حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدبت فينا روح جديدة ، ثم وقفنا على عرفة ودعينا الله ورجوناه فأحسسنا بإحساس أخر ، ورجمنا الشيطان رميا بالحصوات فتحررنا من أسر الوساوس وكسر قيد الشهوات ، وعدنا أخيرا بيضا نبكى من الفرح ملبين مهللين مكبرين . إنها كلمات الشكر والعرفان ندعو بها الله أن فتح قلوبنا لتتلقى الأنوار التى تشع من ورائها ، وأزاح الغفوة والغشاوة من فجوات جنباتها ، لتعمل أثرها فى الروح فتسمو وترتقى باحساس جديد يولد لأول مرة .



 نعم إحساس جديد لم أكن أعرفه من قبل ، كأننى كنت نائما نوما عميقا وصحوت فجأة على نداء الحق حى على الصلاة .. حى على الفلاح ، والفلاح فى الصلاة .. والصلاة خير من النوم وخير من عداها  ، وفى كل خطوة صلاة ، وفى كل صلاة خطوة إلى الله ، وأى خير بعد الصلاة نرجوه ونأمله ونستمتع بتقربنا إليه ، ومادمنا فى الدنيا فسنجتهد وفى سبيل ذلك سنظل نحاول ، وعندما ننجح يزداد الإيمان ويقوى ، وعندما نخفق يقل والأيام تبعدنا ، ولكن تبقى حياتنا رهن المحاولات ، إننا نعيش ونموت ونحن نحاول التقرب إلى الله ، ونصارع الأيام ونحن وحظنا فى هذه الدنيا ، فالأمر موقوف على علاقتنا بالله إذ يجب أن تكون ممتدة ولاتنقطع . وكما جعل الخير فى الصلاة ، خلق لنا آلاء ونعم كثيرة أخرى تعمها الخير وتزداد معها البركات ، اليوم فقط أحسست بآلاء الله علىّ ، وأن هناك أمرا عظيما أخر يمنح ، أو منحة كبيرة أخرى تعطى ، إنه النور الذى يكتمل به الضياء ، وليس أى نور ولا أى ضياء ، وإنما نورالإيمان وضياء السرائر الذى يبزغ من قلب الليل وتستشرفه أولى نسمات فجر خير أيام الله ، يبزغ على الدنيا بارتسامات الأمل التى ترجو رحمته وتأمن عذابه ، إنه يوم عرفات أفضل من طلعت عليه الشمس ، يوم يعبق شذاه مع إشراقة جديدة لنور صباح تزحف معه الملايين ممن يأتون إلى أرض الله المقدسة لتأدية المناسك من كل صوب وحدب قاصدين هذا الموقف العظيم .. اليوم أحسست بمنحى مالم أكن أحلم به ليعم حياتى يوم جديد لم أكن عشته من قبل ، فتحولت حياتى لضياء ظاهر أو نور خفى أو مجرى ماء يمر فى أرض مقفهرة فترويه ، وأى حياة تلك التى استشعرها الأن .. إننى أشعر وكأننى انتهج نهجا جديدا لم أعرفه  قط ، والسؤال الذى وجهته لنفسى ، أنا فى ماذا ، أو ما الذى أنا فيه ؟ !  إننى فى متغيرات .. متغيرات جعلت كل شيئ حولى أكثر صفاء وأكثر وضوحا وقربت قلبى إلى عقلى كثيرا ، وقربتهما إلى الناس أكثر ، وقربتنى أنا والناس إلى الله أكثر وأكثر ، إن الرؤية عندى لم تعد قاصرة على العينين فقط بل هناك رؤية أعمق وأصدق وأوضح وأبصر من معالم الحقائق المرئية المجردة  ، رغم أن إحساسى لازال يتفحص الواضح فيما أعيشه هنا وهو قليل ، ولكننى فهمت مالم أفهم ، وعرفت مالم أعرف ، واكتشفت أنه بمقدورى أن أفهم أكثر وأعرف المزيد واهتديت أن الله منحنى تذكرة العبور ، لما هو أرقى ، ولما هو أعمق ، ووجدت هنا أن فى ديننا حلاوة ، وفى تلاوة القرآن طلاوة ، وأن التقرب إلى الله والبعد عن الذنوب والخطايا أسهل من تنفسنا للهواء المنعش ، وباب الرحمة والمغفرة مفتوح على مصراعيه ليل نهار ومغدق لمن يحب الإستزادة ، عبادات كنت أديها ولكن اليوم اكتشفت أن بها مواطن جمال أخرى كثيرة لم أرها من قبل ، تماما كما اكتشفت أن الروح بالتلبية والإبتهال تعلو وتسمو بالنفس وينبعث منها مشاعر خاصة وأحاسيس متباينة لقيمة المكان المتصل بالسماء عبر هالات كونية تبعث الرحمات فى جو مفعم بالتجليات رغم قسوة الحرارة وشدتها ، فلا هى عرفة البيد الجرداء المقام عليها خيام الحجيج ولا نحن نفترش أرضا تملؤها الحصوات وتكسوها الرمال ، إنما وجدت شيئا أخر ، اكتشفت هنا أن الأرض غير الأرض والسماء غير السماء ، كأنما الأرض والسماء خشعتا لوجه الله واستكانتا بلقاء الله فى الدنيا فأخدتا شكلا أخر، إننى وجدت وجوها أخرى لكل شيئ هنا حتى البشر .. جمال خفى لانحسه إلا بالإجتهاد والمشقة والتعب ، وأن كلما زاد التعب انشرح الصدر أكثر ، وأتسعت الابتسامة أكبر لتملأ الثغر والقلب بالغبطة والإرتياح ، هنا عرفت قيمة البساطة فى الإسلام ، لأنها أعمقها فهما وأكثرها تجردا للإنسان وعلاقته بالله ثم علاقته بالناس ، واكتشفت أن علاقة الإنسان بالله أبسط بكثير من علاقة الإنسان بالإنسان ، وأن هذه العلاقة تتسع وتضيق باتساع أوانحصار المدارك والرؤى الأعمق للحقائق الروحية ، والباب مفتوح لمن يريد بالاجتهاد أولمن كتبت له الإرادة بالمنح من الله . إننى هنا ألتمس طريقا جديدا .. طويلا وعريضا وعميقا لتحريك الفكر وبعث المشاعر وإثارة التقوى في القلوب ، لعلى أضع عليه قدماى وأمشى فيه بارتياح فى حضرة هذا الصفاء الروحى والشفافية الدينية المطلقة ، بعد أن نسمو فوق مشاكلنا ، ونعمق علاقتنا بالله أكثر وأكثر ، لنمضى قدما على طريق الفلاح .. طريق الله .

كانت فكرة أداء فريضة الحج تراودنى منذ سنوات عديدة ، كنت أتمناها منتظرا ، وعلى مسافات بعيدة أرجوها ، فوجود حائل مادى وأخرمعنوى يجعلانى استحى من الله فى الطلب وخاصة أنها فريضة غير واجبة لغير القادر ، ولكن كلما استدار العام والفرصة تأتى ولاتتحقق ، أقول لنفسى بارتياح إن مشيئة الله أبت ، وأطيب خاطرى بأنها فريضة لمن استطاع إليها سبيلا ، فلا ضير ألا أؤديها ، ولكن النفس كانت تهفو وأحيانا تطمع فى كرم الله ، ماذا لو تيسرت لى وأنا أعلم أنها لاتأتى إلا بدعوة خالصة من الله وبتيسير منه ، فلو كتبها لى فلا وجود لأى حائل مادى أو غيره سيمنعنى من ذلك ، فكنت أدعوه على استحياء ولكن بداخلى إلحاح شديد أن ييسرها لى ويمكننى ماديا بفيضه وعطائه ، ولما كانت النية صادقة لوجهه الكريم جاء العطاء بلا حدود وكتبها لى ، ولم يخزلنى حيث قبِل نداء القلب ولباه ، وأجزل العطاء للنفس التواقة واستجاب ، وكأن قوله سبحانه وتعالى فى الأيه الكريمة " والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لايعلمون" لكى أعرف بعد ذلك أنها مواقيت ، وأن كل شيئ خُلق بقدر ، وأن التأخير كان خيرا لاأعلمه ، ثم وجدت نفسى تتخلص معنويا من مخاوف المجهول التى كانت تنتابنى عن هذه الرحلة الشاقة من الأقاويل التى كانت تثار حولها كل عام ، من الذين تمنوها وكُتبت لهم ثم ذهبوا وعادوا ، حيث كنت أقف عند حد السمع فقط ، لأقاويلهم وحكاويهم كلما جاءت فى ذكر أحاديثهم وهم يشرحون باستفاضة معاناتهم منها ، لكن فى النهاية أجدهم يحمدون الله شاكرين أن كتبها لهم وأتموها بكل خير . كنت أقف طويلا عند المفارقة بين حدود التعب والشقاء وإسهابهم فيها ، ثم تمنيهم العودة يسبقها شوقهم وحنينهم إلى تكرارها مرة أخرى بل مرات ومرات ، وكنت أتعجب من هذا الحنين الغريب ، أن تأتى الرغبة فى العودة إلى الشقاء ، مما كان يشعرنى برهبة هذا الأمر وإجلاله ، إذ كيف يجتمع نقيضين معا الرغبة والشقاء ، أو الرغبة فى الشقاء .  ثم عرفت بعد ذلك أن كلاهما فى الحج واحد ، الرغبة احتياج لشحذ معنوى ، أو ارتكان لمأمول ، أو حب لشيئ مفقود .. والشقاء بذل واجتهاد ذهنى وعصبى وجسدى ، فإذا اجتمعا معا لتحقيق رغبة معنوية وهى التقرب إلى الله والإمتثال لأوامره التى تحتاج إلى يقين قلبى قبل الاطمئنان العقلى ، هنا فقط يأتى العطاء .. والعطاء هو المقابل الروحانى الخالص ، لأنه عطاء الله ، ومنحة من الخالق  ، إذا جاء .. جاء بلا حدود وبسخاء ، ويفوق كثيرا كل درجات البذل . حمدت الله كثيرا أن الفرصة جاءت وفق إرادته واستجاب لى وتحققت ، وكم هو جميل أن تتعشم فى الله وتنتظر قضاءه وقدره ، لأنك ستجده هو الأجمل وهو الأفضل على الإطلاق ، ولكن عقولنا البشرية لاتستطيع إدراكه أو استيعابه ، فإذا حان جاء بفيض ورحمة وعزة وكرم من صاحبه ، ولا فيض بعد فيض الله ، ولا رحمة بعد رحمة الله، ولاعزة بعد عزة الله، ولاكرم بعد كرم الله . جاء الفيض وتوفر المال من حيث لاأحتسب ، ووجدت الإستعداد النفسى والطمأنينة يأتيانى بلا خوف ولا تردد ، ولم تعد لى الرغبة فى سماع الأخرين ، فإننى سأذهب وسأحتكم لقدراتى الذهنية والجسدية والروحية حول آداء الفريضة وزيارة الحبيب ، وشكرت الله كثيرا أن مكننى وذهبت وهناك عرفت معنى تثُّوب الناس من الشوق إلى بيت الله الحرام كلما فارقوه ، واشتياقهم إلى زيارة مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وزيارة قبره وقبرى صاحبيه رضوان الله عليهما كلما تركوه ولايشبعون منه أبدا ، وعرفت معنى لذة القرب من زيارة كل الأماكن المقدسة بعد أن ذقت حلاوتها واغترفت ، وكنت قبل ذلك أفكر فى كيفيته ولاأصل لشيئ ، ولكن بعد أن ذهبت وشاهدت وعرفت ، اهتديت وأصبحت من الذين يتحدثون ويفيضون ويتمنون ويتشوقون ، واستوعبت كيف كانت المناسك الشاقة تحلو فى عيونهم ، وتلذ فى قلوبهم ، وتغلب حلاوتها مشقتها ، وتهزم لذتها صعوبتها ، لأن هناك لحظة احتواء كامل من ذات عظمى مهيمنة تبعث فى قلوبنا الإرتياح والسكينة وتشعرك بوجوده ، وقتها فقط وجدت تفسيرا منطقيا لبكائنا ونحن نلبى ذاهبين إلى عرفات ، ونحن فى عرفات ، أوعلى عرفات فى لحظة لقاء النفس مع الروح ، ثم لقائهما معا بالله ، وأى شرف يضاهى هذا الشرف الكبير .. لقاء الله فى أرض الله ، من هذه البقعة المقدسة الطاهرة التى تتجلى بوجود عظمته فيسود المكان كله ، وتستشعر أنت ذلك سبحانه ، فتتهلل النفس فرحة بالتكبير والتلبية والدعاء ، حلقات التواصل الروحى الناطق باسم كل ذلك والمؤدى أيضا لكل هذا ، رغم أننا نسينا كل ماكنا نود أن ندعو به أو من ندعو له ، ولا نجد فى أذهاننا الكلمات المناسبة ، بل كلمات من الخاطر وليدة اللحظة ، وغير متناسقة ، فاللسان تعطل ، و العبارات صارت خرساء ، لأن المعانى التى احتوتنا أصبحت عالية المنشأ ولاتقابلها أى كلمات أو ربما فاقت الكلمات والعبارات وعجز العقل أن يترجمها ، لأنها علت فوق كل الأدعية المكتوبة والتى تحملها الكتب التى معنا ونرددها .. فلا يبقى إلا الصمت و الدموع ، وهنا الدموع أقوى وأبلغ وأعمق من أى كلام ومن أى تأمين على دعاء نردده بلاهدى ولاتفكير وراء من يدعو ، فهى دموع الندم والتوبة والتطهر والفرح و الحزن و ميلاد روح جديدة وحقيقية للنفوس لايعرفها إلا من جربها فقط أو من سيجربها .  إننى هنا أدركت تماما معنى كلمة "الحُجب" ووجدتها تشبه تماما الستائر المعلقة ، إنها ستائر الإرتقاء النفسى التى تُفتح على التوالى كلما ارتقت النفس وعلت ومعها ينقشع الظلام عن النفس وتنطلق الومضات من داخلها ليعمها الضياء ، فحين يخلو الإنسان بنفسه تُفتح أمامه الستارة الواقعية المباشرة التى يراها كما يراها الناس  لتكشف عن واقعه الفردى البسيط بتفاصيل حياته ونشأته وعلاقاته بالناس والدنيا ، ثم تفتح الستارة المتوارية وهى الأعمق نسبيا لتكشف عن واقع الأصل والتاريخ والجذور ، وفيها يعود الإنسان للبحث عن أسباب ذاتيته ووجوده من خلال محاكاة واقعه التاريخى لحياته متتبعا أثار أجداده حتى يحدد كينونته وموقعه فى الكون وماآل وماسيئول إليه حاله ، ثم تفتح الستارة الأخيرة الشفافة الضاربة فى العمق لتكشف عن حقيقة وجود الله فينا وفى الأشياء ، وهى التى تأخذ أمامها كل شيئ وتهيمن على كل شيئ ، حتى نرى أنفسنا شفافة فى ضياء مبهر ، إنه قبس من نور الله . إحساس متفرد يصعب ترجمته إلى كلمات ، هنا وفى هذا المكان تحديدا ظهر واضحا .. جليا ، نسينا معه همومنا الصغيرة ومشاكلنا الكبيرة ، نسينا الدنيا والناس وأولادنا وأملاكنا وأعمالنا وأحلامنا ومشاغلنا ، نسينا أهلنا وأحبابنا وأصدقائنا وزملائنا وجيراننا ، نسينا أصلنا وتاريخنا وماضينا وحاضرنا ومستقبلنا ، نسينا كل ماهو متبدل ومتغير ، وتجردنا من كل شيئ ، لنقف أمامه موقفا عظيما فى الدنيا ، فى بروفة ستتكرر يوم القيامة .. يوم لاظل إلا ظله ، هنا استشعرنا وجود الله حقيقة وليس مجازا ولامبالغة ، حضور حقيقى تلمسه قلوبنا وتستحضره عقولنا ، لأننا أمام الحضور الأعظم لحظة الاحتواء الكامل بالوقوف فى حضرة الله فى هذا المشهد العظيم ، وفى هذا اليوم العظيم ، حضرة هائلة تذوب أمامها الحواس تماما .

وإلى اللقاء فى الجزء الثانى وزيارة مدينة رسول الله
 مع خالص تحياتى : عصام  
  القاهرة فى أكتوبر 2015