كلاسكيات مصرية

الثلاثاء، 16 فبراير 2016

خطوات على طريق الله ( الجزء الثانى )




لو قلنا أن الاشتياق سمة المحبين ، نكون نحن أكثر المشتاقين حظا أن الرحلة المباركة بدأت بزيارة المدينة المنورة التى بها الحبيب ، خطاوينا تعدو أمامنا ، كأنها من فرط تجاوب سعيها للمرام تريد أن تسابقنا ، وتلاحق بُعدنا النفسى المشبوب باللهفة ، والمشحون بالغبطة والسرور ، توليفة كاملة بين الإحساس بالجمال والرؤية المجردة للمكان ، اعتُملت بقياسات جديدة لقيمة التفاعل من نفس أحبت واستعدت وأرادت أن تخترق كل الأشياء أمامها ، بُعد المسافات ، السماء ، السُحب ، الأرض ، البحار ، الأودية والجبال ، حتى تبلغ مناها ، فنحن تمنينا لو أن الطائرة تخترق بنا  الحاجز الزمنى للإنتقال عبر سرعة قصوى .. أسرع من الضوء ،  لنذهب إلى النبى الصادق الوعد الأمين ، ونبقى فى رحابه ، لتتلاقى المعطيات البصرية بالدلالات الإيمانية المعنوية الشاحذة للإرتقاء ، الشفافة بالإنتقاء ، والشاحنة للحنين المصحوب بشوق مركب ومتراكم وموجود سلفا فى وعينا المعرفى لجمال المكان وحبنا الراسخ بوجداننا لرسول الله عليه أفضل الصلوات وأتم التسليمات ، فتكتمل عناصر التحرك المهيأة فينا بدنيا وذهنيا ونفسيا نحو الزيارة التى طالما رجوناها وطلبناها من العلى القدير . من هنا كانت البداية حيث توجهنا إلى الصالة الموسمية بمطار القاهرة الدولى ، وبعد ساعات طوال منتظرين ركبنا طائرة مصر للطيران متجهين الى المدينة المنورة . استغرقت الرحلة حوالى ساعة وثلث الساعة تقريبا ، وبعدها انهينا الإجراءات وركبنا اتوبيسا اتجه بنا مباشرة إلى الحرم النبوى ، وصلنا إلى المدينة مساء بعد صلاة العشاء ، كانت قلوبنا تدق بعنف من فرط سعادتنا ، وكلما قربتنا المسافات انخلعت منا وانتفضت شوقا وحنينا وحبا لزيارة مقام الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم الذى تبعدنا عنه مجرد خطوات ، وصلنا إلى الساحة الخلفية لفندق دار التقوى انتركونتيننتل وهو الفندق الذى سنحل فيه ضيوفا مدة خمسة أيام بأربع ليالى ، واجهته  تقع أمام الحرم النبوى مباشرة ، قبالة باب دخول النساء وأقرب باب للرجال هو باب الملك فهد فى الجهة الغربية ، فإذا أعطيت ظهرك للفندق ، لوجدت نفسك أمام الحرم تجاه الروضة وقبرالرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة ، وهذه المنطقة هى أفضل منطقة حول الحرم من ناحية قرب المسافة والتطوير والعناية . وبوابة الفندق القريبة من مكان إقامتنا تطل على الباب رقم (23) مباشرة . تصادفت إقامتى مع الأخ الفاضل والصديق المحترم المستشار محمد عبد العظيم بسويت رائع يطل على الحرم من زاوية المسجد القديم الذى يضم مقام سيد المرسلين ، حمدت الله كثيرا أن جمعتنى الصدفة مع شخصية أنيقة ، رقيقة ، راقية ، دائمة الابتسام ، مهذبة ، ودمثة الخلق ، وخاصة أن طبيعة هذه الرحلة لاتحتمل بأن تكون الصحبة على خلاف ذلك ، والحق كنت متوجسا جدا من الإقامة مع أى أحد لاأعرفه ، وخاصة أننى كنت على علم أن من بين الرفقاء مايعُرف عنهم الإعتراض على الأشياء التى لاتصادف هواهم ، ويفتعلون المشكلات لأتفه الأسباب ، بل ويغلب دائما على فكرهم الريبة وسوء الظن ، وهى أشياء بغيضة ولا تتفق مع هذه الرحلة المقدسة التى قد لاتأتى إلا مرة واحدة فى العمر ، فخشيت أن تكون  إقامتى مع أحدهم وتمنيت كثيرا فى نفسى ألا يحدث هذا ، ويشاء الله أن يحقق هذه الأمنية التى لم أبح بها لأحد غيره . المهم أننا بعد أن تسلمنا البطاقات الممغنطة لفتح وغلق أبواب السويت ، صعدنا معا لنتعرف على الغرف ، وفى وقت وجيز وصلنا إليه بعد أن وجدنا امتعتنا قد سبقتنا ووضعت أمام بوابته ، دخلنا وتفقدنا المكان ورتبنا مواقعنا وامتعتنا ، ثم أخذنا الحنين لإلقاء السلام على الحبيب ، وخاصة بعد أن شاهدنا القبة الخضراء من النافذة وهى تعانق السماء متوهجة فى ضياء لامع كأنها قطعة من أحجار الزمرد الكريمة ، بهرتنا أنوارها وشدتنا إليها تلألؤها لقربها الشديد من محل إقامتنا ، حيث أن موقعها على مايبدو أمام أعيننا أنها لاتبعد سوى خطوات يسيرة ، تشجعنا ، ورغم التعب الذى بدأ يحل علينا ، قررنا النزول والفرح يملؤنا .

























 رغم وعثاء السفر الذى طالته ساعات طوال ، مابين الانتظار فى المطارات وانهاء الإجراءات وركوب الطائرة مما أجهدنا للغاية وأتعبنا ، إلا أننا أصرينا على الذهاب إلى الحرم الشريف شوقا وتطلعا ، توضأنا ثم انطلقنا الى رحاب المسجد النبوى الذى أخذتنا أنواره الشديدة اللامعة سحرا ، وبعمارته المميزة بطرازاته المختلفة جمالا ، ونظافته التى تفوق كل ماعداه ، وموقعه الفريد بوسط المدينة جعلته أشبه بلؤلؤة أنوارها  مبهرة تغازل العين من فرط جمالها ، ورغم حرارة الجو الخانقة ، إلا أنك لاتشعر به فى جو الحرم ، فهو مغسول دائما برزازات الماء النقى أو بخار الماء الندى المنتشر فى المكان بفعل المراوح الرشاشة . دخلنا إلى ساحة الحرم المغطاة بالخيام الالكترونية ذات الشكل الجميل المتناسق الجذاب ، حتى بلغنا باب الملك فهد وقبيل مدخله بحوالى خمسين مترا هبت علينا نسائم أخرى عليلة ، حيث تحس بانتعاشة أخرى أثر تدفقات التكييف المركزى المرسلة خارج المسجد بعد أن أجزلت العطاء بسخاء داخله وكفت ، ثم تشعر به أكثر لو جلست بجانب الأعمدة لأنها تأتى مندفعة من أسفلها ، لذلك جلسنا بجانب إحداها بعد أن تجاوزنا الباب لمسافة معقولة داخل المسجد الفسيح كى نستريح بعضا من الوقت نقرأ خلالها مايتيسر لنا من القرآن منتظرين حتى تهدأ حركة الناس ونتمكن من الدخول فى رحاب رسول الله ، كى نمتع أعيننا ونملؤها بمشاهدة روعة المكان الذى استشعرنا بقيمة اعتابه الطاهرة ، وعمارته المتميزة الشريفة ، فالأعمدة والتيجان كثيرة صُممت بأكثر من تصميم ، مجموعة منها تم بناؤها من الحجر الأحمر المغطى بطبقة من الرخام المزخرف بماء الذهب ، عليها عقود تحمل أعلاها قبابا ، وأخرى صممت بشكل متناسب ومتناسق مكسوة بالرخام الأبيض المستدير، تعلوها تيجانا من البرونز بزخارف إسلامية بديعة ، فى داخلها مكبرات للصوت وتحوطها فوانيس إضاءة فسفورية ، وفى قواعدها فتحات مغطاة بشبك نحاسى مذهب يخرج منها الهواء البارد القادم من محطات التبريد المركزية . بانوراما مذهلة حيث يضم المسجد أعدادا هائلة منها مقسمة على أجزاء ، وبأشكال مختلفة ، غير أن تصميم الجدر فى توسعات المسجد أخذ شكلا واحدا ، مع اختلاف ألوانها ، فكل جزء كان يفصله عن الأخر بلون حوائطه ، وهو مايدل على وجود فواصل زمنية لتاريخ بنائه ومن قام بتوسعاته سواء من الأسرة الحاكمة أو ماقبل ذلك مذ عهد النبى وماتلاها من عصور الخلافة ، وهذا البناء العظيم رغم اتمامه على فترات متباعدة فى تنفيذ توسعاته ، إلا أنك تعجب فى الألتزام الصارم بوحدة مكوناته وتناسقه ، وخاصة فسحته السماوية التى لم تكن بهذا الحجم ، التى هى عليه الأن ، من حيث تميزها بالقباب الألكترونية التى تتحرك لتغلق كل المساحة التى تحتها مابين وقت الظهيرة إلى قبيل المغرب مباشرة لتترك بعد ذلك للقبة السماوية نصيبا وافرا من إرسالها عطاءات السماء لهذا الفيض الروحانى الذى لاتحسه يحيط بأى مكان سوى مسجد سيدنا رسول الله . سبحان الله الجو هنا جعل قلوبنا تشعر بالخشوع والرهبة والسكينة المفعمة بمشاعر الفرح المختلط بالشوق لصاحب هذا المكان ، وها ذا قبر النبى ، وهذا مصلاه ، وهذا منبره ، وهذه هى الروضة الشريفة التى قال عنها سيد المرسلين " مابين منبرى وقبرى روضة من رياض الجنة".  كلها مكونات تهز النفس اهتزازا ، جعلتنا نستعجل جلستنا انتفاضا وتشوقا تقودنا أقدامنا نحو المسجد القديم ، حتى نكون على مقربة أكثر من الحبيب المصطفى ، وهنا قمنا بصلاة ركعتين تحية المسجد ،  وأكثرنا من الصلاة على النبى العدنان صلوات ربى وسلامه عليه ، ثم صلينا المغرب والعشاء قصرا جمع تأخير ، بعدها بدأنا فى التحرك تجاه باب السلام حيث المبنى القديم للمسجد الحرام لتأدية ما جئنا من أجله غير الصلاة وهو زيارة المصطفى صلى الله عليه وسلم ، دخلناه بسلام ، بعد أن ألقينا السلام بداية ونحن نستقبل أولى دفقات السكينة والوقار والدخول هنا بخشوع تام إجلالا للزيارة الكريمة ، فإذا بنا نجد أنفسنا أمام زحام شديد لايحتمل ، تيار من البشر كلهم مندفعين نحو الأمام ، مندسين فى بعضهم البعض ، ومحشورين فى أضيق الأمكنة ، حتى أصبحنا فجأة جزءا من هذه الكتلة البشرية نتحرك دفعا ، وإلى الإمام منساقين ، ورويدا رويدا زحفنا نحو الروضة الشريفة المفروشة بالسجاد الأخضر ، الأمور تتصاعد والزحام يشتد ويبدو أن الوصول سيكون صعبا للغاية وبمشقة بالغة ، ولكن كلما تقدمت بنا المسافات وتقربنا هنيهة ننسى الزحام وننسى أنفسنا وننشغل فقط بتحقيق الهدف الذى سعينا من أجله ، ومع تقدم خطواتنا اليسيرة نحو الروضة ، كانت أرواحنا تنخطف ، وقلوبنا تخفق بشدة حتى كادت أن تنخلع منا ، والأقدام تريد لو سابقت خطاويها لتجرى مسرعة حبا وشوقا لرسول الله ، وياحبذا لو غافلنا الحراس واستطعنا أن ننفلت من الحواجز المتحركة التى تحيط بنا ، ولكن من الصعب أن تغافل الحراس فهم كثيرون ، ومن الصعب أيضا أن تكسر الحواجز فهم الذين يحركونها ، فضلا عن أنها صُممت بإِحكام ، ولكنه العقل الذى يحاول أن يرتقى بالموقف ويجاهد ويفكر وينشغل بكيفية الوصول ، إنما الواقع يقول أننا لازلنا منساقين فى شكل مجموعات كل مجموعة تسلم الأخرى المكان ، وتذهب للمكان الأعلى مقاما والأكثر قربا للحبيب المصطفى ، ولما جاء الدور علينا استغرقنى التفكير مرة أخرى ، ولكن فى هذه المرة انشغل فى كيفية الدعاء ولمن سندعو ، وبأى كلمات وأى عبارات تليق بهذا المقام العالى ، فالموقف أكبر من أى كلمات وأبلغ من أى عبارات ، والحقيقة لم أجد مايسعفنى من كلمات ربما لضيق الوقت والمساحات ، أو هكذا بررت لنفسى عدم رضاها عن تقصير غير مقصود ،  وتمنيت فى إلحاح بالغ أن يمن الله علىّ بفيضه بما تجود به الذاكرة حتى أدعو دعاء خالصا ، لأننى على يقين جازم أن الرسول يسمعنى ويرد علىّ ، فهو حى فى قبره ، يسمع كل من يلقى عليه السلام مهما خفض به صوته ، ويرى كل من يقف أمامه ولو للحظات يسيرة ، ومهما تجاوز عددهم الملايين ، فإنه يرد على كل واحد بذاته وكأنه الزائر الوحيد الموجود داخل المسجد .




















كنت حريصا ألا أنسى أحدا ممن أمننى أن أدعو له ، وشغلت نفسى مجددا واجهدتها كثيرا فى كيفية إفراغ الامانات التى استودعها لدى أصدقائى وأحبابى بعد الدعاء لأولادى وبيتى وأهلى . حتى وصلنا لغرب منبر رسول الله والروضة الشريفة ، وهنا شعرت بخفقان فى القلب وشعور طاغى بالفرحة المشوبة برهبة المكان ، فكل من يقف فى هذه البقعة الطاهرة وفى هذا المكان تحديدا بالروضة الشريفة سواء عند المحراب أو عند منبر رسول الله يعلم ويستشعر ويوقن أن هذا المنبر هو المنبر الذى كان يقف عليه سيد المرسلين بقدميه الشريفتين ليدرك هيبة المكان وعظمة الموقف ، وأن هذا المحراب كان يشرُف بركوع وسجود وجهه الكريم على أرضه الطاهرة عندما يخلو بنفسه ، وعند القيام بإمامة المسلمين فى الصلاة ، كما كان يباشر منه إدارة الدولة الإسلامية ووضع أسس دعائمها ومنهاجها الذى انتهجه من كتاب الله المنير ونزلت عليه آياته المدنية تباعا من هنا ، فرسم بها طريقها بوضع المنظومة الأخلاقية والقيمية والعبادات ووسائل التشريع والحدود والفرائض وبيان المعاملات والأمورالتى تختص بقواعد الحكم وأمورالتعامل فى حالات الجهاد والسلم وكيان المجتمع ونظام الأسرة ودعوة أهل الكتاب للإسلام ومخاطبتهم بالحكمة والموعظة الحسنة ، وغيرها وغيرها من أمور الدولة والدين ، ثم استكملها صلى الله عليه وسلم بسنن رسالته السامية التى استقت وتوافقت واتسقت مع كتاب الله وخلقه العظيم ، حيث كان يجلس صلى الله عليك وسلم فى نفس هذه البقعة التى نقف عليها الأن مع أصحابه رضوان الله عليهم للتدبر وللتشاور معهم فى أحوال المسلمين وحل مشكلاتهم التى كانت تعترض حياتهم . ياله من فخر وجمال أن تتصور بأنك تضع جبهتك مكان جبهة رسول الله وقدميك مكان قدميه ، ألا يكفى فخرا أنك واقف فى المكان الذى انطلقت منه الدعوة الإسلامية السامية وبناء دولتها العظمى مذ عهد النبى وصحابته رضوان الله عليهم ، مارا بكل العصور حتى اليوم ، يالها من عظمة تستشعر بقوة ورهبة المكان  ومدى تأثيره على أى نفس تركع أوتسجد أو تقف متأملة كل شيئ فيه ، إنه موطن الأمانة واستكمال الرسالة بعد الهجرة وإرساء قواعدها التى نحيا عليها حتى الأن . يالها من روعة أن الإحساس العميق بالمكان جعل أنوار الروضة النبوية الشريفة تخطف الأبصار وتستحوذ على الأفئدة وكل المساحات الموجودة فى النفس ، فصرنا مبهورين مشدودين مرهوبين خاشعين مما جعلنا ككل هذه الأنفس التى ضج بها المكان صافية من كل كدر ، نقية من كل شائبة ، بريئة من كل عيب ، ياالله ماهذا الصفاء النادر والسمو العالى والسعادة الغامرة التى نحسها هنا الأن وقد مكننا الله من تأدية صلاة ركعتين بل أربع فى هذه البقعة المقدسة أمام المحراب ، إنه لشرف كبير مابعده شرف ، ومع كل هذا الفيض إلا أننا مازلنا متعطشين للوصول لمنزل السيدة عائشة وزيارة سيد العالمين وصاحبيه المكرمين أبو بكر وعمر رضى الله عنهما ، فهنا لاتستطيع أن تملك نفسك ولا تسيطر على مشاعرك . انتقلنا للمرحلة الأخيرة من مراحل الحواجز المتنقلة ، حيث وصلنا للممشى الضيق ، السير فيه فى طابور إجبارى ، وماهى إلا لحظات يسيرة حتى وجدت نفسى واقفا أمام المقام الشريف للرسول الكريم سيدنا وسيد الخلق أجمعين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم فأقرأته السلام مرددا " السلام عليك يارسول الله صلى الله عليك وعلى آلك وسلم ، السلام عليك يا حبيب الله ، السلام عليك ياحبيب الرحمن ، وهنا وجدت لسانى يتلعثم كأنه فقد النطق والعقل توقف تماما عن استرداد الكلمات فضاعت منى وتاهت ، ولم أجد مايسعفنى منها غير ترديد ماقلته مرة ثانية وثالثة ، فالموقف مهيب والأدب جم رفيع ، حيث استشعرت بوجوده وكأنّه أمامى ينظر لى ، ولم أشأ أن اتخيل الهيئة التى يبدو عليها رسول الله ، فهذا فوق قدرات وتصورات أى أحد مثلى ، إنما استشعرت وجوده بهيبة الموقف وجلال المنح الربانى أن قدر الله لى الوقوف أمامه من عند رسول الله ، فأى شيئ يستحق أن تتمناه النفس وترضى به بعد هذا الموقف الجليل والمنح العظيم الذى ألجم لسانى  ، وأجهش بكائى بعد أن فاضت الدموع وكفت ، أدبا واحتراما وإجلالا لمن كان خلقه القرآن ، وكان بالمؤمنين رءوف رحيم صلى الله عليه وسلم ، فالوقوف فى حضرة أعظم مخلوق فى الكون ومنقذ البشرية من الضلال له رهبة ترتجف له الأبدان وتقشعر، فلطالما كانت القلوب تتلهف شوقا ، والصدور تتثنى خشوعا ، والعيون تتعلق جمالا ، والنفس تتوق وجدا ورفعة أن تحوز يوما بقيمة هذا الموقف وهيبته حبا وامتثالا لحبيب الرحمن الذى أدبه فأحسن تأديبه ، وعلمه فكان خير من علم البشرية . وها أنذا أعيش الحلم ، ومن فرط الفرحة نسيت كل شيئ ، وضاعت منى الكلمات ولم يبق غير أحساسى بالتقصير ، فاستغفرت الله كثيرا ورفعت أكف الضراعة للسماء طالبا العفو عن هذا التقصير المفاجئ داعيا وراجيا أن يتقبل منى مايعلمه بداخلى ولم يستطع لسانى أن يترجمه وينطقه ، وأن يغفر لى نسيانى وقلة حيلتى وقصر ذات اليد . لم يستغرقنى الوقت كثيرا حتى  تحركت خطواتى قليلا لأقف أمام قبرى صاحبيه اللذين سارا على هديه ونهجه واقتفيا دربه ، الخليفتين الراشدين أبو بكر وعمر رضوان الله عليهما وألقيت عليهما السلام ودعوت لى ولهما ماتيسر من أدعية  ، وبعدها اتجهنا نحو باب البقيع بعد دعوة الحراس المتكررة للخروج وإفساح المكان لأخرين ، والتزاما بالتعليمات التى رأينا أنها واجبة كى يستمتع غيرنا بما استمتعنا به نحن ، خرجنا ممتنين فرحين بزيارة الحبيب . وهكذا فعلنا فى صلاة الفجر ، ولكن بتؤدة ، لأن معظم الناس كانوا يتوجهون إلى المقام الشريف بعد تأدية الصلاة مباشرة مزاحمين ومنازعين بدفع شديد ، لذلك آثرنا الجلوس فى الباحة السماوية التى نرى منها القبة الخضراء ، هذا المنظر الذى لا يمكن أن ينسى ، فهذه القبة هى التى تضم جسد النبى عليه الصلاة والسلام ، استلمنا القبلة لنقرأ مايتيسر لنا من القرآن الكريم إلى نحو ساعة من بعد صلاة الفجر ، إذ لا بد أن نبقى ساعة من الزمن على الأقل ، أدينا خلالها صلاة النافلة التى كنا نحاول أن نستكثر منها لأنها فرصة فالصلاة فى مسجد رسول الله وساحاته تعادل ألف صلاة فيما سواه ، ونحن هنا وفى واجهة النبى عليه الصلاة والسلام ، فلاأجمل ولاأروع منها صلاة ودعاء ، كنا نفعل ذلك كثيرا فى الأيام التى مكثنا فيها بالمدينة ، فالتواجد بالحرمين الشريفين تجعلك تشعر بالروحانية والأمان ، غير أنك فى مكة تشعر بالجلال ، ولكنك فى المدينة تشعر بالجمال ، ياله من جمال .




























وفى فجر اليوم التالى عقدت النية  لزيارة البقيع بعد تأدية صلاة الفجر، وزيارة النبى صلى الله عليه وسلم اليومية ، ذهبت بمفردى ، والبقيع مكان قريب لمسجد رسول الله القديم ، الطريق إليه سهلا وميسرا ، وصلته عند شروق الشمس ، وبعد أن تجاوزت البوابة الرئيسية ، قمت بتأدية تحية المكان كزائر لمنطقة قبور : " السلام عليكم دار قوم مؤمنين ، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ، اللهم اغفر لأهل البقيع ، اللهم اغفر لنا ولهم " ثم ندعو لعامة أهل البقيع من الصحابة والصحابيات الذين نعلم أنهم قد دفنوا فيه أو غيرهم من العوام الذين لانعرفهم ، فالمكان فسيح ويضم شواهد كثيرة . الجو هنا كان رائعا ، والمشهد أكثر روعة وجمالا ، وخاصة منظر الحمام وهو يطير ويسرح فى المكان ، المنظر يسحرك ويأخذك إلى أماكن رحبة . بدأ الناس يتوافدون فرادى وجماعات ، يقفون فى خشوع أمام اللحود الكثيرة ، تسبقهم تساؤلاتهم عن اسماء المقبورين ، ولكن الحراس لم يردوا بإجابة محددة ، وربما معهم كل الحق ، حتى لايتمسح البعض بهم ، أو يتلمسون البركات منهم ، أويطوفون بأئمتهم ويجلسون على قبورهم ، أو غير ذلك من منكرات انتشرت بين الكثيرين ، وخاصة أن هناك من لديهم معتقدات كثيرة تسوقهم لهذه الأفعال التى نهى عنها الرسول ، أتممت الزيارة ، وخرجت من البقيع للفندق كى أتناول طعام الإفطار مع الصحبة الطيبة فى مطعم الفندق كما تعودنا ، وهناك تم طرح فكرة استئجار سيارة ميكروباس لمن يريد الذهاب إلى مسجد قباء أو مسجد ذات القبلتين وهو المسجد الذى تم فيه تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام ، وتعتبر زيارته مستحبة استحبابا مؤكدا ، أبدينا رغبة فى الذهاب معهم ، وبعد أن اتفقنا مع صاحب هذه الدعوة الطيبة بأننا سنكون معهم ، صعدنا للغرفة كى نستعد ، تردد المستشار محمد فى الذهاب وآثر أن يستريح قليلا قبل صلاة الظهر ، وحاولت أن أقنعة بأن زيارة هذا المسجد مستحبة وكونها أول مرة له فإنه سيحبها وسيداوم عليها بعد ذلك ولن يترك زيارته أبدا كلما جاء فى عمرة . اقتنع بعد أن استغرقنا بعضا من الوقت فى حوار الذهاب من عدمه ، ونزلنا إلى ساحة الفندق وجدنا السيارة قد غادرت بعد أن اكتمل عددها ، وبدت  علامات الضيق تتملكنى وتظهر على ملامح وجهى حاولت قدر الإمكان إخفاءها ، واستدرت متخذا طريقى للعودة إلى الغرفة ، لكن المستشار محمد أصر على الذهاب وقال مادمنا عقدنا العزم ونزلنا فلنذهب ، استوقفنا سيارة أجرة ، واتفقنا مع سائقها على الذهاب والعودة ، ثم ركبنا وانطلقت بنا السيارة فى شوارع المدينة الهادئة الرحبة ، المنظمة غاية النظام ، حيث لم نشعر بالطريق البته لسهولة مسالكه وعدم ازدحامه ، فضلا عن تميز جماله بالنخيل الذى كان ممتدا على حافتيه بطول المسافة المؤدية للمسجد ، ناهيك عن المساحات الخضراء الكبيرة التى استحوذت مزارع النخيل والبساتين على أكبر قدر منها ، وتذكرت على خلفية هذا المنظر الجميل يوم أن كنت فى نفس هذا المكان من قبل عامين تقريبا عند أخر زيارة لأداء العمرة ، وشاء لنا الله أن ندخل إحدى هذه المزارع ، يومها استقبلنا أصحابها بترحاب شديد ، وببشاشة وجه معهودة لدى معظم أهالى المدينة ، مما جعلنا نشعر بالارتياح ممتنين خجولين من أسلوب استقبالهم الرائع ، وبعد أن قوبلنا بهذه الحفاوة الكبيرة قدموا لنا أنواعا كثيرة من التمور المعدة فى الصناديق المتراصة على المناضد ، ودعونا لنتذوق حلاوة طعمها ونأكل منها ماشئنا ، مع تقديم مشروب الشاى والقهوة الخضراء المحوجة بالحبهان ، دون التقيد بالشراء ، فقد عُرف عن أهل المدينة كرم الضيافة ، وحسن استقبال الغرباء . استلفتنى نوع من التمر كان الكثيرون يتهافتون عليه ، وسألتهم عنه حتى عرفت أنها التمرة التى كان يتناولها النبى صلى الله عليه وسلم بل ويفضلها عما سواها . ووجدت نفسى شغوفا لرؤيتها ورحت مزاحما مع المزاحمين لأجد أحد العاملين بالمزرعة يقف أمام مشنة من الخوص مملؤة بتمور مستديرة صغيرة الحجم سوداء اللون ، ليشرح للواقفين أمامه قصتها ، وسر ارتفاع ثمنها ، حيث أكد أن هذه التمرة تحظى بعناية خاصة عن الأنواع الأخرى  ، وأنها تسمى تمرة العجوة ، لاتنبت ولاتثمر إلا فى هذه التربة المباركة ، يأتى إليها المسلمون من شتى بقاع الدنيا ، قاصدين إياها لاقتنائها تيمنا بالرسول صلى الله عليه وسلم الذى كان حريصا على غرس شتائلها وتناول ثمارتها ، مؤكدا بإسهاب كيف تأخذ منهم مجهودا كبيرا ، ورعاية خاصة فى زراعتها ، ثم متابعة فائقة لانباتها وريها وتخصيبها لما لها من قيمة روحية ارتبطت بها وثمنتها الأحاديث النبوية الشريفة ، مددت يدى والتقطت منها حبات وأكلتها ، ووجدت فعلا أنها تمرة مميزة عن غيرها من التمور فى حلاوة الطعم وجمال المذاق ، فعاودت وأخذت حبات أخرى تناولتها بنهم ، ثم ارتشفت فنجانا من القهوة ، استمتعت بنكهته الشهية ، المميزة برائحة الحبهان العطرة النفاذة . ثم اتجهت خارج الخميلة لأتفقد بقية المزرعة فاسترعى انتباهى مساحتها الشاسعة وكثافة النخيل فيها ، إذ كان اصطفافه فى تناسق ، ممشوقا إلى أعلى بتساو ، وكأنه يريد معانقة السماء ، وسرحت فى قيمة المكان وفخامة وجمال النخيل ، وقلت لنفسى أليس هذا النخيل هو الذى كان موجودا فى عهد النبى عليه الصلاة والسلام ، فمعروف عن النخيل أنه معمر وقد تتجاوز أعماره ستة آلاف عام ! إذن فإن الذى أراه مصطفا أمامى عايش وشاهد وعاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، شيئ رائع أن تتعايش وتتواءم فى أجواء روحانية لها صلة بسيدى رسول الله ، وترى أشياء رآها وحظيت بعنايته .



















وعدت لتوى من شردتى الذى شغلتنى بالنخيل والتمور والأرض المباركة والمساحات الخضراء من مزارع وبساتين على رؤية المسجد الذى أصبح مشهده على بعد خطوات يسيرة من مرمى بصرنا ، لقد وصلنا له فى وقت وجيز ، المسجد لونه أبيض يضم أربع مآذن وست قباب رئيسية كبيرة ، وواحد وأربعين قبة صغيرة غطت بها سقفه متراصة بجانب بعضها البعض ، وباحة واسعة فى وسطه مطلة على السماء ، سررنا برؤيته وأن الله قد من علينا بزيارته وجعل لنا نصيبا فيها وخاصة أن هذا المسجد كان النبى يفضله ويحبه وله خصوصية كبيرة عنده صلى الله عليه وسلم ، حيث ثبت فى الأثر عن النبى أنه كان يزور قباء كل سبت راكباً أوماشياً ، وقال: من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه ركعتين كان كعمرة . وها نحن وصلنا لساحته ، تركنا السائق منتظرا ، ودخلنا المسجد بكل وقار واحترام ووقَفنا بين يدى الله وأدينا ركعتين ، كما قمنا بالصلاة لأولادنا وأحبابنا لكل فرد ركعتين باسمه بنية أن تحتسب لهم بأجر عمرة ، أوهكذا تمنينا من القلب أن تكون من نصيبهم ويأخذون ثواب أجرها ، ثم جُبنا المسجد للتعرف على آثاره الخالدة فى النفس والمرتبطة بالهجرة النبوية الشريفة إلى المدينة واستقبال أهلها العارم لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومشاهدة أثر القبلتين اللتين شهدتا التحول التاريخى والإسلامى العظيم من قبالة المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام ، وعند مرورى وسط المسجد حانت منى التفاتة عارضة ، فإذا بى أرى عمودا فى نهايته كرة مُضاءة كتب عليها : " طلع البدْر علينا من ثنيات الوداع " ، وثنيات الوداع هذه هى المنطقة التى لازلنا نقف فيها متأملين ، قرأت النشيد الذى ارتبط بهجرة المصطفى وربطته بمشهد الصحابة وهم يستقبلونه به ، إنه نشيد عفوى صادر من قلوب أحبت ووعت بقيمة الرسالة ، وتخيلت كيفية الاستقبال بتصور عقلى وأنا واقف فى البقعة الطاهرة الخالدة التى شاهدت الحدث ، لقد كان خير استقبال لخير مبعوث للعالمين صلوات ربى وسلامه عليه ، حيث أُمر بالهجرة من مكة مسقط رأسه ، فجاء قاصدا هذه المدينة بأمر إلهى وبوحى من السماء بعد أن عانى قسوة أهل بلدته ، ورغم أن مكة المكرمة كانت أحب بقاع الدنيا إلى قلبه باعتبارها وطنه الأول وشهدت مولده ونشأته إلا أنه اختار المدينة ، البلدة التى آمنت برسالته وناصرته وآوته وآذرته وكانت سببا حقيقيا فى نشر الإسلام ، بسم الله الرحمن الرحيم : " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا ۚ وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ " صدق الله العظيم ، وبعد الفتح الأكبر لمكة عاد النبى إلى المدينة التى أضيئت بنور وجهه وبنور الإسلام ، بحنين البعاد والرغبة الحقيقية والأمينة فى البقاء بها حتى يلبى نداء ربه وقد كان ، لذلك جاءت دعوات رسول الله صادقة ونابعة من قلبه ووجدانه لهذه الأرض الطيبة ، والمدينة الطاهرة بأن يجعلها الله حراماً كمكة ، حيث قال صلى الله عليه وسلم : " اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك ، وإنا عبدك ونبيك ، وإنه دعاك لمكة وإنى أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ، ومثله معه . اللهم بارك لأهل المدينة فى مدينتهم ومكيالهم وموازينهم ومقاييسهم وجميع مقاديرهم ، بركة مع بركة ". حتى أجاب الله دعاءه ، فأخبر أمته فرحا ببشراه ، حيث قال صلى الله عليه وسلم : " إنى حرمت المدينة بأمر الله كما حرم إبراهيم مكة ، حرمتها بحدودها المعروفة ، ما بين جبليها ، حرمتها وما يقرب من اثنى عشر ميلاً حولها ، لا يقطع شجرها ، ولا ينفر صيدها ، ولا يسفك فيها دم من أحدث فيها حدثاً ، أو أتى فيها بظلم ، أو آوى ظالماً فهو مطرود من رحمة الله ، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه عملاً صالحاً ، وذمة المسلمين واحدة ، يجير أدناهم كما يجير أعلاهم ، لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى " . ثم قال : " لقد دعوت الله أن يحبب إلينا المدينة، وأن يصحح أهلها من الأوبئة وعلى سكانها الصبر على شدتها لأكون شفيعاً وشهيداً لهم يوم القيامة ، كما دعوت الله تعالى أن يحرسها ، فلن يدخلها الطاعون ولا الدجال وستنفى خبثها ، وتخرج الفجرة من سكانها ، فحافظوا على البقاء فيها ، فمن خرج منها غير راغب فيها عوضها الله بخير منه إنها طيبة ، من أرادها بسوء قصمه الله وأهلكه وأذابه كما يذوب الملح فى الماء ، وستجدون رخاء فى مدن كثيرة غيرها ، فلا يغرنكم هذا الرخاء لتهاجروا إليه منها ، فالمدينة خير لكم إن كنتم تعلمون " . ياله من جمال ، كيف آن للنبى أن يأتى مهاجرا ، ثم يحول المدينة كقطعة من الجنة على أرض الله ، وها أنذا أقف على البقعة الطاهرة التى استقبلت الرسول مهاجرا ، وشهدت بداية ميلاد الدولة الإسلامية ، فالبداية الحقيقية لدولة رسول الله والتى اتسعت بعد ذلك وجابت آفاق العالم كانت من هنا .. من ثنيات الوداع ، ومن ثنيات الوداع لفتح مكة ، ومن فتح مكة لحجة الوداع ، مشوار كله عمل وجهاد أسس فيه رسول الله دولة الإسلام دنيا ودين ، وبعدها الخلافة الراشدة ومنها للخلافة الإسلامية الكبرى التى توالت عليها دول عظمى كثيرة بدءا من بنى أمية وانتهاء بالخلافة العثمانية ، فأحسست بانتفاضة اقشعر له بدنى باجتياح ، واضطرب معه خاطرى بشدة من هذا التخيل الجميل ، بعدها غادرنا المكان يملؤنا الغبطة والسرور بهذه الزيارة التى فيها عمق لمعالم ينبغى الحرص الشديد على زيارتها .






















وعند العودة سألت السائق عن مول اسمه "القارات" ، كان قد أخبرنى به صديق من كثرة تردده عليه فى أسفاره الكثيرة إلى هذه البقاع الطاهرة لأداء العمرة وزيارة مقام النبى الرفيع ، فكانت من نصائحه لو أردت شراء الهدايا أوالتسوق فلن تجد أفضل من هذا المول ، ففيه تجد كل ماستحتاجه ميسرا وموجودا وأسعاره جيدة ومعقولة ، ورغم أننى كنت قد قررت عدم الشراء قبل السفر ، إلا أن الفكر داعبنى لشراء الهدايا من المدينة لأولادى وأصدقائى المقربين ، وساعدنى فى ذلك رغبة المستشار محمد فى شراء بعض الهدايا لأسرته وأصدقائه ، وعندما سألنا السائق أكد على أنه من المولات الراقية والأسعار فيها معقولة وأنه لايبعد كثيرا عن مكان إقامتنا ، وأبدى استعدادا فى توصيلنا إليه مجانا ، فتشجعنا واتفقنا معه على الذهاب بعد صلاة الظهر ، واعطانا رقمه لنتصل به ، وبالفعل اتصلنا به ووجدناه منتظرا فى المكان المتفق عليه .. عند ساحة الفندق ، وذهبنا ، وقضينا وقتا طويلا فى الشراء ، لم أصدق نفسى أننى استطعت تجاوز حد التخوف من التسوق والشراء ، فأقبلت على الشراء بنهم  مما دعانى لشراء حقيبة أخرى كبيرة ، بعد أن وجدت ماأشتريته لاتكفيه الحقيبة التى جئت بها ، وعدنا محملين بما اشتريناه من ملابس وهدايا .  وانفتحت شهيتنا بعد ذلك فى التسوق بعد أن تشجعنا وتجرأنا على ممارسة هوايته ، وخاصة محال العطور كنا دائمى التردد عليها ، فهى هنا كثيرة ومنتشرة فى ربوع المدينة ، فلا يخلو شارع منها على مالايقل عن متجر أو اثنين ، وخاصة " العربية للعود " ، والعود عطر ارتبط بالمكان ، والمكان ارتبط فى النفس برائحة العود ، وخاصة أننى أعرف أن الجيد منه يمتاز بطول فترة بقائه على الجلد ، وأنه على الملابس يدوم أكثر وفقا لجودته ، وأعلم أيضا أن أنواعه كثيرة جدا وبمسميات مختلفة ، وأن والعود الجيد لا تظهر رائحته من الوهلة الأولى فبدايتها لا تكون مستحبة ولكن بعد فترة قصيرة من التعطر بها تظهر رائحتها قوية وجميلة ، عرفت ذلك من كثرة التردد على محلات العطور لتفقد  أنواعها الكثيرة والسؤال عن أسعارها ، ثم نتعلل التعطر بها لتجربتها على أجسادنا ، ولكن فى الواقع كنا نعتبرها فرصة سانحة مجانية للتطيب ، كنت أعرف جيدا بقيمة هذه العطور العربية الأصيلة المنشأ ، والتى تنفرد رائحتها الزكية بشذى عبيرها فأصبح من السهل أن أميزها جيدا وأن أقارن بينها ، وخاصة إذا خُلطت مع بعضها بنسب معينة ، وتسمى بالمخلط   . تطيبنا كثيرا ولم نشتر ، إلا بخورا جميلا وعجيبا تركيبته من هذا الخلط عبارة عن مزج رائع من توليفة عطرية رائحته ذكية اسمه " المطور " ثمنه غاليا ، ولكن لم يكن باهظا إذ كان عليه خصما خاصا وصل نسبته 50% ، فاشتريت ثلاث عبوات منها . وكنت كلما اشتريت شيئا أفرح وأشعر بالفخر بأن عقدة التسوق عندى انفكت هنا ، وجرينا على أننا أثناء عودتنا من أداء كل صلاة تقودنا أقدامنا إلى المتاجر والمولات الكثيرة والمنتشرة بالمنطقة المحيطة للحرمين فى المدينة ومكة ، وإن كان أكثر ترددنا إلى متاجر القزاز وبن داوود والعربية للعود ، حيث أنها من أشهر المتاجر الموجودة بالسعودية وأكثرها فروعا . فأصبح ذهابنا للتسوق أساسيا إذ اقتطعتنا وقتا اجتزأناه من وقت راحتنا .









حتى جاء اليوم الرابع والأخير لنا بالمدينة أدينا صلاة الفجر وقمنا بأخر زيارة للحبيب ، ومكثنا فى المسجد حتى الساعة التاسعة ننهل ونروى ظمأنا من هذا الفيض الجم الذى سنفتقده بعد قليل ، كنا نشعر بالحنين ونحن مازلنا فى رحابه ولم نغادر ، كان دعاؤنا لله التمنى بالعودة وألا يحرمنا من هذه الزيارة الطيبة الكريمة المباركة مرات أخرى ، كنا نصارع الوقت فى عد الدقائق المتبقيات حتى نستنشق أكبر قدر من شذى هواه النقى الطاهر الذى سيبقى رحيقه يحيطنا فى كل مكان نحل فيه بعد مغادرتنا المدينة العطرة ، غادرنا الساحة الشريفة عائدين للفندق كى نتناول طعام الإفطار ، بعدها صعدنا للغرف كى نستعد للحدث الأعظم والتجهيز لمغادرة المدينة المنورة بنية التمتع ، ارتدينا ملابس الإحرام وعزمنا على الذهاب إلى مكة لأداء العمرة والاستعداد للحج الأكبر .















وإلى اللقاء مع الجزء الثالث إلى عرفات الله والحج الأعظم .




مع خالص تحياتى : عصام                           القاهرة فى فبراير 2016