كلاسكيات مصرية

الجمعة، 25 مارس 2016

خطوات على طريق الله ( الجزء الثالث )



النفس تتخوف والفكر يتشوب ويأخذنى الحذر الشديد إذا ماأقبلت على أى عمل لم أعتد أن أفعله ، فكنت دائما أرى نفسى بعيدا عن فكرة ارتداء خرقتين كبيرتين ، ويشغلنى بل واستصعب جدا فكرة ارتدائهما ، أن أشد إحداهما على خصرى فى الجزء الأسفل من جسدى وأثبته بدبابيس ، وألقى الأخرى على كتفى من الجزء العلوى وأضع فى قدمى نعلا يخلو من الحياكة مثل الخرقتين ، أن مجرد الإحساس بأننى سأكون عاريا دون الخرقتين ، نفسى تمتعض ارتداءهما ، لدرجة أن التفكير بهذا الأمر جعلنى أسرف فيه ، قبل أن اتهيأ للبسهما ، حتى رحت أسأل نفسى كثيرا ماذا لو حدث وانساب الجزء السفلى من إحكامه  فجأة ، أو شُد طرفه من شدة الزحام الكثيف الذى يعج ويموج فى بعضه أثناء الطواف ، فيسقط ، كيف لإنسان أن يواجه مثل هذا الموقف لاقدر الله ؟! ماذا أفعل لو حدث لى ذلك ؟ ورحت أسأل نفسى سؤالا أخر هل هناك ضرورة بأن يكون ارتداؤهما على هذا النحو ، أو بمعنى مخالف ألاتوجد طرق أخرى لإرتدائهما بصورة أفضل ؟ . إن ماحدث فى المرتين السابقتين عند أدائى للعمرة ، يحدث الأن وأنا على مشارف تأدية فريضة الحج ، لازلت أعانى من شد وجذب لتخوف لاوجود له ، واشغلت نفسى به كثيرا ، كأننى فى كل مرة أعُد نفسى لامتحان عسير ، وأضعها تحت ضغوط لم يكن لها أى داع ، هيئتى الغريبة التى سأبدو عليها .. نظرات الناس نحوى .. تفادى النظر إلى عيونهم ، ثم أعود وأقول لنفسى هل كل الناس ستترك تأدية مناسكهم لينشغلوا بى ؟ إننى فى دهشة من نفسى ، ماهذا الذى أفعله ؟ وماذا يخيفنى فيه أو يحرجنى منه ؟ انتبهت لنفسى وانكسفت ، ثم سألتها سؤالا أخر أعمق ، لماذا هذا اللبس بالذات ، لبس بلا حياكة ومن لون واحد وشكل واحد ، لاهندام فيه ولاوجاهة ؟ رجعت وقلت لنفسى يالها من اسئلة بلا معنى ، وسفسطة عقلية بلا داعى ، فنحن لانسأل أنفسنا لماذا نرتدى الجلباب أو البيجاما فى المنزل ، والقميص والبنطلون خارجه ، وملابس الكاجوال فى النهار ، والبدلة والكرافتة فى الحفلات والسهرات ، والمايوة على الشواطئ فى الصيف ، ونتعرى أمام الناس بإرادتنا وبلا خجل ، وإذا كان اللبس مجرد اعتياد أو يدل على مستوى وذوق بيئات ومجتمعات نعيش فيها ، ولها معانى كثيرة ، أهمها نظرة الناس ، بأن تضعهم فى تقييمك لهندامك واعتبارا لملبسك ، وأن المقولة الشهيرة " كل مايعجبك وألبس مايعجب الناس " لم تأت من فراغ ، بل لها مدلول وحكمة . فإن الأمر هنا يختلف تماما ، الأمر هنا أعظم وأكبر من أن يأتيك الشيطان فى خرقة تستر بها نفسك ، أن تسقط ، أو تخاف الناس أو تهابهم وأنت ذاهب فى رحلة إلى الله . واهتديت أخيرا أنها مجرد وساوس للشيطان يحاول بها بث الإضطراب فى النفس أن تأتى وتزعزع إيمانك فى هذا التوقيت تحديدا ، وتجعلك تدخل فى نوبة فى التفكير من لاشيئ . وينسيك أنك تأتى إلى هنا لكى تتعرى .. تتعرى من الذنوب والخطايا والآثام ، فمن منا بلا خطيئة ، ومن منا لم يقترف ذنبا فى دنياه ، لاأحد معصوم ، فنحن نذهب للطبيب كى نتعرى أمامه بإرادتنا حتى يكشف عن علة ، ونحن نتجرد أمام الله تجردا تاما من كل شيئ ، ونصبح عراة من الملابس والشهوات والعادات ومن المخاوف أيضا امتثالا وحكمة ، كى نصل إلى الحقيقة أو أصل العلة ، وليست العلة التى تتعلق بمرض فى الجسم  ، فهى أهون بكثير من علل النفس أو علل الدنيا التى يصعب تشخيصها وتحديدها إلا من علت قدرته وجل شأنه وعفا ، إن اعتلال النفس إنما تُثقل بحمل أوزارها . لذلك نحن هنا فى حضرة الخالق كى نتجرد من هذه الأوزار ونحجم هوى النفس ونكبل الشيطان فى قلوبنا ولانترك له فُرجة فى نفوسنا ، ومن هنا جاءت حكمة توحد البشر فى ارتداء هاتين الخرقتين رمزا لستر العورات الظاهرة من سوء الخلق الذى يعرفه الناس ، والباطنة التى لايراها إلا الله .. رمزا للرجوع إليه فكما جئنا للدنيا سنغادرها بهذه الهيئة .. وأيضا رمزا للتجرد أمامه امتثالا وخضوعا وندما وتطلعا وطاعة له ، ليتحول كل شيئ من حولنا إلى زجاج شفاف نرى أنفسنا من ورائه بوضوح ، حتى نصبح أكثر أمنا وأمانا ، وقتها فقط وحتما سوف نعرف أن الأمر لم يكن متعلقا بخرقة تسقط أو نُحكم عليها فنلملمها أو نتركها على عواهنها ، أو نتفادى النظر إلى عيون الناس حولنا ، لأننا وجدناهم أكثر منا دهشة ، فهم فى وضع مماثل تماما ، وإنما الأمر أعمق من ذلك بكثير . فليس الحياء من الناس وإنما الحياء من الحق .. من الله فى لحظة اللقاء به ، حياء يحتاج إلى تجرد فكرى وجسدى .. حسى ومعنوى .. تجرد يُفضى لتجرد .. ومن التجرد الجزئى للتجرد التام ، حتى نرى قيمة الأشياء فى نفوسنا ،  وقيمة نفوسنا من الحياة ، لنعرف بعد ذلك أين نحن من الله فى الدنيا ، ونُعطى الفرصة مجددة كى نسمو بها إلى ماهو أرقى .. إلى نعيم مقيم فى دار الأخرة ، لنعود لمشاغلنا وحياتنا وعاداتنا وقد أصبحنا نرى الدنيا بمنظور أخر ، أنها لاتساوى مثقال ذرة من الأخرة ، فهى أقل من أن تُذكر ولاتساوى جناح بعوضة أو حبة من خردل ، حكمة اقتضتها الحياة ، فكما أتينا إلى الدنيا عراة ، سنذهب منها عراة ، وسنبعث يوم القيامة أيضا عراة ، لا لبس ولاهندام ، ويومها فقط سينشغل كل منا بنفسه ، فلا مجال لكسوف أوخجل .






تهيأنا للسفر ونحن فى الفندق استعداد لأداء فريضة الحج ، والدخول فى النسك . تناولنا طعام الأفطار ، وصعدنا للغرف ونحن على أعلى درجات الإستعداد النفسى والشحذ المعنوى ارتدينا ملابس الإحرام متمتعين ، بعد أن اغتسلنا غسل الإحرام وتوضأنا وتطيبنا ، قمنا بتأدية صلاة الظهر والعصر قصرا جمع تقديم عقب سماعنا آذان الظهر من المسجد النبوى ، أدينا الصلاة فى الغرفة أنا والمستشار محمد فى جماعة ، ثم نوينا للعمرة متمتعين للحج " لبيك عمرة متمتعا بها إلى الحج ، فإن حبسنى حابس فمحلى حيث حبستنى" وصلينا ركعتين ومعه بدأنا بالتلبية ، نزلنا لساحة الفندق بأمتعتنا ، وركبنا الحافلة التى شقت طريقها مودعين أجمل أيام وليالى عشناها بجوار الحبيب ، بدأنا الطريق إلى مكة بعد أن تجاوزنا أخر حدود المدينة المنورة ، وماأن اعتدلنا عليه ، حتى أخذتنا التلبيات على صوت واحد ، ورحنا فى غمرة من الشوق نلبى ونهلل ونكبر على فترات متقطعة ولكننا لبينا كثيرا ، فالطريق طويل ، كنا نلبى وننام ونأكل ونشرب ونتكلم وكانت لنا فيه أيضا بعض التوقفات بباحات أكثر من استراحة ، لقضاء الحاجة أو التزود ببعض الزاد غير مازودتنا به الشركة المنظمة للبعثة من مأكولات ومياه وعصائر ، وإن كانت أهم هذه التوقفات كانت عند منطقة تسمى "أبيار على" وهى منطقة قريبة من المدينة المنورة ، التوقف فيه إجبارى ومهم بوصفه الميقات المكانى للإحرام ، وإن كنا قد اغتسلنا وتطيبنا ولبسنا إحرامنا ونوينا فى الفندق ، إلا أننا نزلنا كى نسبغ الوضوء ونصلى ركعتين ونتفقد المكان ، وعند النزول من الحافلة ، نبهنا سائقها ـ وكان اسمه محمود ، رجل طويل القامة ، عريض المنكبين ، خفيف الظل ، دائم الإبتسام ويلقى قبولا من الجميع  - إلى ضرورة أن نتذكر جيدا رقم  الحافلة ، وألا نبعد عنها كثيرا ، ونلتحق بها مباشرة بعد الانتهاء من أداء صلاة الركعتين ، كما نبهنا عدم الإبتعاد كثيرا عن الرفاق ، حتى لا يستغرقنا الوقت الذى حدده بألا يتجاوز ثلث الساعة ، ومع ذلك تجاوزنا الوقت حتى تعدى أكثر من الثلثين ، واستلفتتنى هذه المسألة جدا ..عدم الاكتراث بأهمية الوقت ، وعدم الحرص على الألتزام بشيئ ، رغم أن هذه الرحلة قائمة فى الأساس على المواقيت المحددة ، فكنا فى كل مرة نتوقف فيها ، ننسى تعليمات المشرفين وتوجهات السائق ، ولكم أن تتخيلوا كم من متاعب تواجه هؤلاء فى متابعة سلامة راكبيهم أثناء التجوال فى محطات التوقف ، وأيضا عند إجراء عملية التأكد من إتمام العدد بالنداء على الاسماء فى كل مرة قبل مغادرة المكان ، وهى مسئوليات كبيرة تقع على عاتقهم بالدرجة الأولى ، مما يضعهم فى كثير من الأحوال فى حرج بالغ إذا ماواجهوا أى مشكلة طارئة أو تقصير غير متعمد أو لاقدر الله مضت الحافلة ونسوا أحد ركابها أو تاه أخر فى المكان ولم يستدلوا عليه إلى أخر هذه المشكلات العارضة التى تكدر صفو أى رحلة ، فما بالنا وهذه الرحلة الوارد حدوثها فيها بكثرة ، نظرا لتكدس أعداد الحجاج فى مثل هذه الأمكنة وتواجدهم بصفة دائمة على مدار الأيام التى تسبق يوم عرفة ، باعتباره أهم المواسم لهذا البلد الطيب على مدار العام كله ، وسهل جدا أن أحدا يضل الطريق أو يتوه وسط الزحام المكتظ ولايهتدى إلى مكان الحافلة التى تقله إلى أخر هذه الآفات التى تطرأ ويجد المشرفون أنفسهم فيها فجأة وتشكل لهم قلقا كبيرا ، وتعطيلا لامبرر له لبقية الرفاق ، ويأتى ذلك على زمن ووقت الرحلة المعلوم والمحدد سلفا مما يربك برنامجها ويحدث فيه اضطراب ويعطله ، وكل ذلك بالطبع ينال الكثير من راحة الجميع ، هذه الآفة لايقدرها غير المشتغلين عليها ، أما رفاق البعثة لايشغلون لها بالا ، وكم من أسفار للحج لاتخلو منها قصص وحكايات عن عجائب وطرائف كان سببها الإهمال وعدم تقدير المسئولية .




وبعد عناء سفر طويل وصلنا إلى مشارف مكة بعد غروب الشمس بوقت كاف فى رحلة جاوزت ساعاته الخمس أو يزيد ،  إذ قضينا نهار هذا اليوم كله فى السفر ، وإن كان الطريق طويلا إلا أنه معبد ولايشعرك بالملل ، تحيطه صحراء جرداء من الجانبين وتحفه جبال صخرية ممتدة عن بعد ، غير مفرطة الشموخ ، ولكنك تحس بشموخها وسموها .. تميل معظمها للون الأسود ، الطريق واسع رخو ومنبسط ، يشعرك وكأنك تمتطى طائرة لاحافلة ، يبدو أنه جزء من شبكة أنشئت حديثا ، نظرا لأهميته ، فهو يعتبر من أهم الطرق الحيوية ، لايمل ليل نهار من نقل ملايين الحجاج والمعتمرين ، وكذلك أسطول المركبات الذى ينقل مياه زمزم المحملة من مكة للمدينة بلا انقطاع . والشيئ الرائع الذى لاحظته بعد أن دخلنا مكة وتجاوزنا حدودها بقليل ، أن جميع الطرق حولها دائرية حديثة ، طرق وكبارى علوية رئيسية وأخرى تحتية وجانبية متفرعة منها ، وأنفاق كثيرة هنا وهناك ، فُتحت وشقت فى الجبال الصخرية بإحكام شديد ولمسافات طويلة حتى تجعل عملية المرور والوصول من وإلى الحرم  سهلة ميسرة ، مزودة تزويدا كاملا بلوحات إرشادية ضخمة كبيرة الحجم وخاصة عند المنحنيات وقبل الدورانات وعند مفترق الطرق ، كلها كُتبت بالعربية والفارسية والإنجليزية والأردية والتركية ، وتجعلك تشعر بإنسيابية السير فيها حتى ولو بلغت الكثافة ذروتها ، ممايؤكد أن هناك جهودا جبارة بذلت بهدف تسهيل الحركة المرورية للقادمين إلى مكة ومغادريها ، وتقديم أفضل مايمكن تقديمه من وسائل الراحة لحجاج بيت الله الحرام والمعتمرين والزوار وساكنيها على حد سواء. 







تأكدنا من أننا وصلنا مكة بعد أن مكنتنا الرؤية من مشاهدة الأنوار المنبعثة من الأبنية التى يقع بعضها على الهضاب والجبال التى تحيط بها أو التى تتخلل شعابها والتى تميزت ببساطتها الشديدة ، وقلة ارتفاعها ، ولكن لم تكن بالفخامة الواجبة لهذه المدينة التى يتطلع إليها بلايين البشر من شتى بقاع الدنيا ، وخاصة أنها مدينة كبيرة ، مستطيلة ، متصلة البنيان ، ولكن يشوبها اضطرابا معماريا ، ربما كانت طبيعتها الجغرافية الخاصة حالت دون تنسيقها بشكل حضارى أفضل وأفخم وأرحب مما هى عليه الأن - كمدينة دبى مثلا - رغم كل المحاولات المضنية لجعلها درة العالم ، ولكن وقوعها فى بطن وادٍ تحفه الجبال ، جعلتها هكذا محدودة الإمكانيات ، فحتى ولو ارتفعت مبانيها فلا يمكن أن يراها قاصدوها حتى يصلوا إليها ، إلا أن الوضع فى منطقة الحرم وماحولها يختلف تماما ، حيث الفندقة عالية المستوى ذات الارتفاعات الشاهقة ، والطرز المختلفة وكلها تحمل طابع الفخامة والرقى ، وخاصة مجمع أبراج البيت وهو وقف عبارة عن مجموعة أبراج تقع أمام المسجد الحرام مباشرة ، بوابته الرئيسية قبالة باب الملك عبد العزيز بمسافة لاتتجاوز خمسين مترا عن الكعبة المشرفة ولذلك سمى باسم وقف الملك عبد العزيز ، ويعتبر ثانى أعلى ناطحة سحاب فى العالم حيث يبلغ ارتفاعها حوالى ستمائة متر ، كما يُعتبر أضخم برج من حيث المساحة فى العالم ، ويشتمل على سبعة أبراج سكنية ، جهزت بأحدث طرق البناء والتشطيبات الوثيرة للديكورات والأثاث ، وسوف نحل بإذن الله تعالى ضيوفا للرحمن فى البرج السابع وهو برج الفندق أعلى الأبراج ارتفاعاً ، أو مايعرف ببرج الساعة حيث يضم أعلى ساعة فى العالم .. وهو فندق إعمار رزيدنسز بفيرمونت مكة . غير أن التطوير لم يتوقف فى منطقة الحرم بعد ، ولم يقتصر عند حد معين بل لازال مستمرا ومكثفا ، ولا أحد يستطيع التكهن إلى أى مدى سيصل هذا التطوير الذى قد يمتد لأعوام أخرى كثيرة قد يُطال أجيال أخرى ، إلا أن مايقدم من خدمات لايمكن أبدا لجاحد إن ينكرها ، تخطيط واعى يتوافق وطبيعة هذه المدينة المقدسة ، وتشييد محكم لشبكة طرق رائعة حققت للمدينة الفاضلة توازنا مدهشا ورائعا بين أصالة مبانيها ومعاصرة طرقها وتطوير مُعجز للحرم .








ومع بدء إنحدار الطريق ، بدأت أنظارى تتطلع إلى الأمام ، منتظرا بل متلهفا لحظة ظهور مآذن المسجد الحرام ، ولكن يبدو أننا لم نصل بعد ، اللهم إلا مشهد برج الساعة وهو الجزء العلوى لهذا المجمع الضخم ، الذى بدا هلاله الشامخ متربعا وجاثما فوق الساعة ملوحا فى الأفق البعيد بإشاراته الضوئية المبهرة من قبل دخولنا حدود مكة بمسافة كبيرة نظرا لأرتفعات بناياته الشاهقة حيث بالإمكان رؤية أنواره من مسافة بعيدة قد تصل إلى ثلاثين كيلو مترا وخاصة أننا حللنا ضيوفا على مكة مساء ، مما مكننا من رؤية إشاراته الضوئية بوضوح ، فبدا متوهجا ومتوجا يتحلى بالزخارف المستوحاة من التراث الإسلامى ، حيث تشع منه حزم ضوئية بيضاء صعودا للسماء ، ويضاء الهلال والساعة معا أثناء الآذان بواسطة مصابيح ضوئية أخرى تصدر منهما أضواء لامعة باللونين الأبيض والأخضر يتماوجان ويمتزجان ويُضربان فى الأفق البعيد ، بانوراما بصرية وضوئية رائعة تعانق السماء عناقا معلنة عن هيبة وجمال المكان . ربما كانت هذه المشاهدة تعطينا إنطباعا بقربنا من المسجد الحرام ، ولكن الحقيقة أننا لازلنا فى أطراف المدينة . أخذت الحافلة تجوب الطرق شمالا ويمينا ، تهبط نفقا .. تصعد جسرا ، تلف دورانا ، تجتاز إنحناء ، ثم تستقيم فى شوارع طولية باتجاهين يحيطهما الأشجار على جانبيه ويتوسطهما جزيرة مكسوة بالحشائش ، ناهيك عن النافورات التى امتلأت بها معظم الميادين هنا ، معظمها تأخذ أشكال أباريق ومصابيح وقنينات إسلامية مزدانة بأنوار متلألئة ، وكلما اقتربنا ارتفعت كثافة المبانى وأخذت شكلا أرقى وخاصة المحال والمتاجر والمولات ومعارض السيارات ، ويظهر التواجد الإنسانى بكثافة أكبر ، الجميع هنا يتميزون فى ارتدائهم اللباس الأبيض سواء كانوا محرمين أو من يرتدون ثيابهم العادية ، ملامح البشر متباينة ولاغرابة فى هذا ، فهذه هى المدينة الوحيدة فى العالم التى يأتون إليها من كل فج عميق قاصدين هدفا واحدا أداء عمرة وزيارة بيت الله الحرام ، أضافة لأهل المكان ومن يتواجدون لأغراض أخرى . ولكن فى هذا التوقيت من كل عام حركة الناس هنا تختلف تماما عن بقية العام ، حيث تتعاظم وتقوى ، فيتوافدون إليها ويجوبون من شتى بلاد العالم بنية واحدة ومقصد واحد ، هو أداء فريضة الحج ، ترتيبات خاصة للمطارات والموانى البرية والبحرية فى إطار تنظيم عام يُربط فيه جميع المطوفين بوسائل النقل العامة وبالوكلاء إلى أخر هذه الأمور التنظيمية ، وتلاحظ أن هذه التحركات تشتد أكثر بين الطرقات وشوارع وشعاب مكة فى مثل هذا اليوم الثامن من ذى الحجة أى يوم التروية .













انحنت الحافلة جانبا فى طريق ضيق للغاية وتوقفت ، ثم نزل مشرفا الرحلة طه عبد الحكم وعمرو عبد الشافى وتوجها معا إلى مكتب المطوف عرفنا اسمه مسبقا من خلال البرنامج الموزع علينا سلفا قبل الرحلة بأيام ، ويدعى طلال حسين محضر ، وذلك للقيام ببعض الإجراءات الإدارية البسيطة والتأكد من الأسماء ومراجعتها وترتيبات التسكين قبل التوجه إلى الفندق ، ثم عادا بأحدهم وإن كان أغلب الظن أنه ابن المطوف نظرا لحداثة سنه ، ركب معنا ، ثم انطلقت الحافلة بنا مرة أخرى متخذة طريقها للفندق الذى سنقيم فيه ، وفى هذه الأثناء علمت أنا والمستشار محمد بتعديل مكان تسكيننا ، حيث أُبلغنا أنه تم تبديل جناح رقم خمسة آلاف وأحد عشر بالدور الخمسين وهو جناح مطل مباشرة على الحرم ، بغرفة أخرى كانت بالدور الثلاثين مفترض أنه المكان الذى كنا نشغله على الأوراق ، لم نشأ أن نسأل لنتبين السبب لأننا جئنا إلى هنا بقدر الله وفى ضيافة الرحمن ، فليس لنا أن نسأل المضيف عن ضيافته لنا وكيفيتها ، فضيافة الرحمن دعوة ميسرة من قبل الله عز وجل فلاأفضل ولاأجمل ولاأرقى منها دعوة . عدنا للسكون قليلا حتى نبهنا أحدنا بالتلبية ، فاندفعنا ملبين بحماس وخاصة أننا أصبحنا على مقربة من الحرم بخطوات قد تكون يسيرة ، أخذت الحافلة تجوبها ببطء شديد ، فشوارع وطرق مكة المحيطة بالحرم ضاقت كثيرا من توقف حافلات شركات السياحة الكثيرة والمتنوعة المنتشرة هنا أمام الفنادق لنقل رحلات ورعايا معظم الدول العربية والإسلامية وماأكثرها ، وكلما توغلنا نحو الحرم اشتد الزحام وأطبق على الطرق أكثر ، وفجأة انحرفت الحافلة داخل نفق ذا منحى شديد ، وما أن تجاوزناه حتى رأيت من على بعد جزءا من مآذن الحرم ، ووجدتنى أتحفز متطلعا ، أشب متوثبا من على الكرسى لأتمكن من رؤيتها فى زاوية أفضل ، الأصوات من داخل الحافلة تعلو وتتصاعد بالتلبية كلما قربتنا المسافات هنيهة ودنونا من الحرم أكثر، القلوب تخفق بشدة ، وفى لحظة انخطاف صعدت الحافلة إلى جسر ملتف مؤدى إلى ساحة الحرم مباشرة ، وفى برهة أشرفتنا أنواره التى تذهل العقل وتشتته فى عالم من الروحانيات ، لايشغلك عنه سوى الزحام الكثيف الذى يضيق الصدر ،  فالساحة لاترى لها أرضا من الأعداد الهائلة ، حتى الأرصفة أكتظت بالبشر ولم يعد لها معالم ولاوجود . جاوزهم السائق بصعوبة بالغة ، ثم وجدنا أنفسنا بعد ذلك أسفل مبنى ضخم ، لم أتبينه فى بادئ الأمر ، ولم أعرف أننا قد وصلنا إلى بوابة الفندق الخلفية ، ثم عرفت بعد ذلك أنها البوابة التى تستقبل الوفود الجديدة تباعا بأمتعتهم ، وأننا الأن أسفل أبراج مكة ، وكنت قد ظننت أننا وقفنا وقوفا اضطراريا تحت أحد الأنفاق ، لكن المشرف طه عبد الحكم تحدث إلينا من خلال المايك وعرفنا ذلك وبشرنا بسلامة الوصول .














لم نأخذ وقتا طويلا فى عملية التسكين ، ولكننا تهنا فى دروب هذا الفندق العجيب حتى فى نطق اسمه تجد صعوبة بالغة " إعمار رزيدنسز بفيرمونت مكة " ، وكان لمشقة الوصول للمصاعد وتعددها مشكلة أخرى ، فالفندق به مستويات متعددة والممرات المؤدية إليها مضلة وكثيرة واختلاف أرقام وحروف وعدد المصاعد طبقا لهذه المستويات محيرة وتدخلك فى متاهات لو اخطأتها ، فهى كثيرة إذ تبلغ كما عرفنا هنا من كثرة الاستفسار عنها ستة وخمسين مصعدا ، مصاعد تسلمك لمصاعد أخرى ، وأدوار تسلمك لمستويات أعلى ، شيئ يصعب إدراكه ويترك لديك أثرا من القلق ، يحيرك ويتعبك لو ذهبت لمكان أخر ، غير الذى تقصده . فنحن مازلنا نجهل كل شيئ فيه حتى وصولنا للغرف لم يكن سهلا ، ربما يرجع السبب لاتساع مجموعته الفندقية واختلاف دروبها وتباعد مسافاتها حيث تعتبر أكبر كتلة بنائية فى مكة قاطبة ، فالفندق يعتبر جزءا من مشروع وقف الملك عبدالعزيز للحرمين الشريفين ، تتألق فى أعلاه أكبر ساعة فى العالم ، مما جعلنا نتوه فيه ونفترق عن بعضنا البعض ، وكنا نجد العنت للوصول إلى المشرفين لو صادفتنا أية مشكلة . لكن الفندق بصفة عامة يعتبر إعجازا بإطلالاته المباشرة على الكعبة والمسجد الحرام حيث لايبعدك عنه سوى خطوات أفقية قليلة ، تنقلك من الدنيا إلى أطهر بقعة خلقت على وجه الأرض ، أو بالصعود الرأسى ، وخاصة إذ كنت فى أحد الأدوار العليا  فسترى بانوراما كاملة لأفاق مدينة مكة المكرمة ، كما أنه يجمع بين روعة البناء وأناقة التصميمات الفخمة للغاية سواء فى الخارج أو فى الداخل حيث يحتوى على أرقى اللمسات الفنية ، فضلا عن التقاليد الدافئة للضيافة العربية الأصيلة ، فهنا تجد تعاونا كاملا من كل العاملين به ، فهم يتسابقون لتقديم خدمة متفانية ليهيئوا لنا كل أسباب الراحة ، الابتسامة تعلو شفاههم ولاتغادرها أبدا ، لديهم مساحات وفيرة رحبة فى إسداء الإجابات على أية استفسارات دون ضيق فى الأفق أو الصدر ، كل ذلك كان كافيا بأن يبعث على الراحة والرقى  ويشعرك بالرفاهية الكاملة .












وصلنا للجناح الخاص بنا بعد محاولات مضنية من التخبط  والإستفسارات الكثيرة . الجناح فى الطابق الخمسين أحد الأدوار العالية التى تحمل إطلالة يعجز اللسان عن وصفها ، المشهد من خلال النافذة الزجاجية يكشف صحن الحرم المكى تتوسطه الكعبة المشرفة وسط بانوراما لمدينة مكة بأكملها ، حيث رأينا  منها القاصى والدانى من آلاف المعتمرين وملايين الحجاج وكأنهم علامات أو نقاط تتحرك ، جميع الصلوات الخمس يمكننا أن نؤديها  فى الغرف وكأننا فى صحن الحرم ، حيث بإمكاننا سماع صوت الأذان يكبر داخل الجناح من خلال المكبرات الصوتية المتصلة بالحرم مباشرة . الجناح يحتوى على غرفتين كبيرتين تطلان مباشرة على باب الملك عبد العزيز ، فخامة الغرف ومميزاتها التى تعددت ما بين راحة ألوانها البسيطة الهادئة وطلتها الانفرادية تشعرك بالإنسجام والطمأنينة والراحة ، وخاصة أن كل غرفة تتمتع بدورة مياه وحمام ومطبخ خاص بها . لم نجد مشكلة فى اختيار الأماكن ، كنا أربعة أفراد جمعنا الجناح ، مثلما جمعنا روح الود والألفة والرقى ، وماكنا نحلم بأكثر من هذه الصحبة الطيبة إن لم نكن تمنيناها من قبل فى بداية الرحلة ،  أنا والمستشار محمد عبد العظيم ، والدكتور علاء عبد النعيم والأخ محمد مصطفى وهو زوج إحدى الزميلات بالقطاع الطبى ، حال الاحترام والمؤاخاة والتعاون دون الاختلاف على موقع تسكين كل منا فى الغرف ، كل واحد وضع أمتعته على السرير الذى اختاره بكل رضا نفس وإيثار ، لدرجة أن كلا منا سأل الأخر هل أنت مستريح فى المكان أم لا ، كنوع من التأكيد على ترضية نفس الآخر ؟ وكانت الإجابة أسرع من السؤال نعم وعن طيب خاطر . شغلت أنا والمستشار محمد الغرفة الداخلية ، والدكتور علاء ومحمد مصطفى الغرفة الخارجية . ثم أتفقنا على أننا نؤدى العمرة معا قبل أن تحل علينا متاعب السفر . شدنى جدا النظر لأضواء المسجد الحرام المنعكسة على الجزء الظاهر من الشرفة الزجاجية المتوارية خلف الأستار ، فاتجهت إليها شوقا وتطلعا وازحت بقيتها ، حتى بدت النافذة كشاشة عملاقة وقفت خلفها مذهولا مبهورا بروعة المشهد وقدسيته وروعته ، المنظر هنا لايوصف حقا من فرط جماله ، الكعبة بدت وكأنها لؤلؤة سابحة وسط بحر لجى ، تحيل أمواجه البيضاء الملتفة حولها فى حركة مستمرة إلى أنوار مشعة ، نور ينبعث من أنوار .. أنوار كأنها قبس من السماء ، أبرق فأضاء ، وتوهج فأنار الكون كله ، اتسعت معه الدائرة أكثر فشملت الصحن وأسوار المسجد الحرام بمآذنه الممشوقة فى سماء مكة بارتفاعها المتساوى وبشموخها التى أعطت هيبة للمكان . تسمرت أمام النافذة ورحت أتفحص بقية المنظر ، كل الأبنية المجاورة دون الوقف كانت منخفضة للغاية خالية مما يشغلنا بها أو يميزها بشيئ يثير الاهتمام ، بدت توسعة صحن المطاف فى الأفق واضحة تأخذ شكلا دائريا قائمة على هدم التوسعة العثمانية وتوسيع الحرم من الجهات الثلاث وقوفاً عند المسعى، إذ أن المسعى ليس من الحرم ، وتم توسيع الحرم من جهة أجياد، كما تتم الأن تعلية أدواره لتصبح أربعة أدوار مثل المسعى الجديد حالياً ، وعلى مايبدو أنه سيتم تعلية دورين مستقبلاً ، وهو ماتظهره الاشغالات التى لازلت ممتدة داخل المسجد الحرام وخارجه لتشمل أسواره العالية المستديرة ومآذنه الشاهقة الجديدة الرائعة التى تعددت لتتسق مع هذه التوسعات ، وتوسعات أخرى دائرية الشكل تحيط بالحرم الأم قد تصل إلى عمق مكة لتزيد من رقعته يوما بعد يوم ، وكأن مكة مخطط لها أنها ستصبح كلها حرما على شكل دائرى الكعبة مركزها ، إننى أتخيلها من شكل البناء الذى يبدو لى من هذا الأفق البعيد أن التشييد يتم فيه على قدم وساق ، وهاهى الأوناش والروافع تملأ الجزء الشرقى من الحرم وممتدة لتشمل المحيط الدائرى كله للمساحات التالية له آخذة عمقا فى مكة عازمة على استكمال المخطط له . لذلك كان النظر للكعبة المشرفة كنقطة ارتكاز وحده كاف ، بل وأجمل مايمكن أن تقع عليه عين ، ليس هنا فقط بل كل معالم الدنيا بما انطوت عليه من جمال الطبيعة . ثم يمتد الفراغ عبر الفنادق المجاورة والطرق المحيطة إلى الجبال المترامية التى تحيط بمكة فى الأفق القريب والبعيد . نادونى بالإستعجال فهم أصبحوا جاهزين . انتبهت على وعد وعدته لنفسى بأننى سأطيل الوقوف كثيرا أمام هذه البانوراما الرائعة بعد ذلك لالتقط ماشئت من صور وفيديوهات لهذا المشهد الرائع من تليفونى المحمول المتواضع الذى أحمله ، محاولا التدقيق فى اختيار الزاوية والكادر ودرجة الضوء والظلال ، فالمنظر مثير جدا ويستحق الاهتمام ، لذلك سأكون حريصا على التقاط الصور فى كل أوقات الليل والنهار ، فكل وقت هنا له جماله وله مكانته وروعته . لكن علىّ أن أتحرك الآن مع هؤلاء الرفاق حتى نوغل فى هذه البانوراما ، ونصبح مجرد علامة فى هذا الخضم الهائل ، لتنتفى فرديتنا ونحقق فى أنفسنا اسمى معانى الإنسانية بالإرتقاء ، وكلما دنونا من البيت العتيق وطفنا به سنصبح جزءا من هذه التموجات البيضاء التى تدور حوله ، وننغمس فى هذه الأنوار ذاتها ، ونؤدى العمرة بسلام .






 



 توضأنا ونوينا العمرة ، ثم وزعنا على أنفسنا الكروت الممغنطة لأبواب الجناح والغرف ، وحاولنا ونحن فى طريقنا للمصعد أن نحفظ المكان حتى لو افترق أحدنا بسبب الزحام الشديد فى الحرم وهو مايُفترض ورود حدوثه ، فيستطيع أن يصل إلى هنا مرة أخرى ، لأن رحلة الصعود والهبوط من الجناح للحرم يتطلب اجتياز ركوب مصعدين ، الأول من الدورالخمسين إلى الدور الثلاثين ، ثم نركب مصعد أخر يهبط بنا إلى أسفل الفندق ومنه مباشرة للحرم الذى يبعد حوالى خمسين مترا . دقائق حتى وصلنا للحرم الأمن ، ثم دخلناه متمتعين لأداء العمرة ممتنين بأن قدمانا قادتنا إلى أطهر مكان فى الدنيا ، ومع أول لحظة وقع فيها نظرى على الكعبة ، توقفت هنيهة لتأخذنى إشراقتها الخاطفة ، وكلما أقتربت منها أو من المركز يتولد لدى يقين جازم أن ثمة شيئ يجذب هذا الحشد بعضه بعضا ، بشعاع جاذب أو قوة مغناطيسية شديدة تشد بقوة ، وليست هذه الحركة الدائرية هى الملهمة أو هى المحركة لمشاعرهم المتأججة ، أو هى مجرد طقوس تؤدى دون فهم مدلولاتها ، أو مجرد لفات تتم ويجزى أجرها ، إذ لابد أن هناك شيئا ما غير مرئى هو من يدير هذا الحراك الذى لايهدأ من ضراوة هذا الحضور الضخم بحكمة تفوق قدرات البشر ، ثم استلهمنى أنه لابد من وجود قوة ترقب وترى .. قوة تجمع ولاتشتت .. يقوى معها الحوار حول هذا المركز المرئى الدائر فى حركة مستمرة من تلبية ودعاء وتهليل ، وكلما قويت التلبيات يقوى الحوار ويرتقى ، وتزداد معه المواجد وخفقان القلوب ، إنه الحضور الأعظم لله ، حيث يبلغ الحوار مداه فتشف النفوس وتكون فى أقصى درجات الحضور الروحى والثبات العقلى مع الله ، إنها وحدة البشرية كلها تحت مظلة الرحمن وراية الإله الواحد بعيدا عن أطماع الدنيا وصخب الحياة بما فيها من شرور وأطماع وطموحات وصراعات البشر . وأتذكر معنى للدوران حول شيئ ، جاء فى تفسير للدكتور مصطفى محمود لمسألة الطواف حول الكعبة قال فيه : " أن الإلكترون فى الذرة يدور حول النواة ، والقمر حول الأرض ، والأرض حول الشمس ، والشمس حول المجرة ، والمجرة حول مجرة أكبر ، إلى أن نصل إلى " الأكبر مطلقا " وهو الله .. ألا نقول " الله أكبر " .. أى أكبر من كل شيئ ،  ونحن الآن نطوف حوله ضمن مجموعتنا الشمسية رغم أنفنا ولا نملك إلا أن نطوف ، فلا شيئ ثابت فى الكون إلا الله هو الصمد الصامد الساكن والكل فى حركة حوله ، وهذا هو قانون الأصغر والأكبر الذى تعلمته فى الفيزياء ، أما نحن فنطوف باختيارنا حول بيت الله .. وهو أول بيت اتخذه الإنسان لعبادة الله ، فأصبح من ذلك التاريخ السحيق رمزا وبيتا لله " .











تنبهت عندما قاربنا من الحجر الأسود أو الأسعد كما يحب أن يسميه أهل مكة ، وهو حجر من الجنة يبدأ عنده الطواف وينتهى به ، وكما أرى أنه محاط بإطار من الفضة الخالصة صونًا له ، ويظهر مكان الحجر بيضاويًّا ، والسواد هو على الظاهر من الحجر ، أما بقيته فهو على ما هو عليه من البياض . وللحجر الأسود قصة جميلة ، حيث جاء به جبريل إلى إبراهيم عليهما السلام من السماء ، ليوضع فى مكانه من البيت حتى يكون علامة البدء والانتهاء ، وذلك بإن الله أوحى إلى إبراهيم أن ابن لى بيتا فى الأرض . قيل أن إبراهيم ضاق بذلك ذرعا ، فأرسل الله السكينة ، وهى عبارة عن ريح خجوج  أى ريح شديدة الهبوب لها رأسان ، فأتبع أحدهما صاحبه حتى انتهت إلى مكة ، فتطوت على موضع البيت كتطوى الحجفة ، أى التفت حول نفسها التفافا شديدا واستدارت كالترس ، وأمر إبراهيم أن يبنى حيث تستقر السكينة . فبنى إبراهيم وبقى حجر، فذهب الغلام يبغى شيئًا ، فقال إبراهيم : لا ، ابغنى حجرًا كما آمرك . قال : فانطلق الغلام يلتمس له حجرًا ، فأتاه فوجده قد ركب الحجر الأسود فى مكانه ، فقال : يا أبت ، من أتاك بهذا الحجر ؟ قال : أتانى به من لم يتكل على بنائك ، جاء به جبريل من السماء فأتماه". قصة البناء والحجر الأسود فيها حكمة وفيها أيضا جمال .









دنونا من الحجر الأسود حتى صار أمامنا ، ثم تأخرنا عنه مقدار خطوتين وجعلناه على يسارنا ولم يكن بمقدورنا استلامه أو استقباله ولكننا أشرنا إليه برفع أيامن أيدينا تجاهه نظرا لتدافع الطائفين المهول حوله ، ثم سمينا وكبّرنا "بسم الله والله أكبر" اللهم زِد هذا البيت تشريفاً وتعظيماً وتكريماً ومهابة وعزا ، وبدأنا الطواف والأمل يحدونا أن يقوى العزم بالفكر والدأب بالعمل على أن نشق هذا الزحام المكتظ ، ثم بدأنا الانتظام فى الدورانات السبع ، وهو طواف يجمع القدوم والعمرة معا ، وكلما مرَّرنا على الركن اليمانى استلمناه فى المنطقة التى بينه وبين الحجر الأسود قائلين قوله تعالى: "رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ" ، وكلما مرّرناَ على الحجر الأسود نفعل مثل ما فعلناه عند بداية أول شوط ، وكنا ندعو بما شئنا وانشغلنا بالذكر والعبادة ، أحيانا كانت أصواتنا تعلو بالدعاء فى التهليل والتكبير حتى نسمع أنفسنا من هدير أصوات هذا الطوفان ، وأثناء ذلك كنا متابعين ومراقبين أنفسنا بأعيننا ، وعندما كان الزحام يشتد كالطوفان نلجأ إلى تأبط كل منا ذراع الأخر حتى لانتوه عن بعضنا بعضا .








ورحت أتواصل مع نفسى بفكر شفيف مرة أخرى وأتخيل كيف امتد هذا الطواف بلا انقطاع البته منذ عهد النبى إبراهيم خليل الله حيث كان العرب قبل ظهور الإسلام سواء كانوا حنفاء أومشركين يحجون ويعتمرون ويطوفون ويسعون ويعرفون التلبية ، غير أن لكل قبيلة تلبية خاصة بها ، ولكن العبادات تحولت من التوحيد إلى الشرك والوثنية . فالكفار كانوا يطوفون بالكعبة الشريفة ويصلون ، ولكن طوافهم وصلاتهم لم يكن منها شيئ على النحو المعروف فى طوافنا وصلاتنا الأن ، وإنما كانت كما وصفها القرآن صفيرا وتصفيقا . قال تعالى : " وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً ". وكانت الكعبة المشرفة لها قداسة كبيرة فى نفوس الجاهليين حيث كانت تعرف لديهم بالقبلة ، فكانوا يقصدونها بوجوههم سواء قريبين منها أم بعيدين عنها ، وكان أهل الجاهلية من غير أهل قريش يطوفون عراة رجلاً كان أو امرأة ، الرجال بالنهار والنساء بالليل ، حيث كانوا يقومون بترك ثيابهم فى العراء ملقاة على الأرض لايمسها ولا يأخذها أحد حتى تبلى من وطء الأقدام والشمس والرياح والمطر ، فهى فى نظرهم ملابس اقترفوا فيها الذنوب والآثام ، لذلك فإن طوافهم بالبيت وهم عراة لم يكن انحلالا ، بل تحرجا من طوافهم حول الكعبة المقدسة وهم بهذه الملابس ، وتفاؤلاً بالتعرى منها أمامها ، ولكن فى أغلب الأحيان كان إكراها من سدنة البيت حيث فرضوا عليهم ان يخلعوها ويرتدوا ملابس خاصة بالسدنة المعروفين بقريش، فإذا لم يجدوا وجب عليهم أن يطوفوا عراة ، ولم يستثنوا النساء، بل فرضوا عليهن ما فرضوا على الرجال . لذلك كانوا يلجأون للعرى جبرا حال عدم تمكنهم من استعارة أو استئجار أو ابتياع ملابس أهل مكة ، ولكن كانت هذه شرعتهم ، أن يقبلوا شيئا فيه كراهة ، وأن يقبلوا شيئا وفق بدعة ابتدعها القريشيين وقبلت بها العرب بخنوع وخضوع تام ودون مناقشة وبلا أى سند مقتع ، لدرجة أنه استقر فى وجدانهم اعتقاد بأن القريشيين هم أهل بيت الله ، وأنهم أطهر منهم ، حتى إن أحدهم رجلاً كان أو امرأة ولم يجد ما يرتديه من ملابس القريشيين طاف بالبيت عرياناً ، وتذكر المراجع أن امرأة كانت تطوف بالبيت عارية لأنها لم تجد ثيابا ترتديه ، فأخذت تطوف وهى تنشد : اليوم يبدو بعضُهُ أو كله ، وما بدا منه فلا أُحله . حتى جاء الإسلام فأمر الله تعالى بستر العورة ، فقال: "خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ". وقال النبى صلى الله عليه وسلم : " لا يطوف بالبيت عريان " ، حتى أنه وكّل عنه أبا بكر ليحج بالمسلمين ويبلغهم بهذا الأمر فى الحجة التى سبقت حجة الوداع بعد سنوات تسع خلت من الهجرة ، وفى يوم النحر صار أبو بكر يؤذن فى رهط من الناس وراح يحذرهم بألا يحج بعد هذا العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان . لقد طهر الإسلام الحج وهذبه منذ أربعة عشر قرنا من الزمان بل ويزيد من الوثنية والشرك والعرى وجعله حجاً نظيفاً ، ومنذ ذلك الوقت وحتى الأن لم تتوقف حركة الطواف بدءا من سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أول الطائفين وإمام الهداة ، ثم الصحابة ، فالأولياء والصالحين ورجال الدين ومشايخنا من أجدادنا وأجداد أجدانا وآبائنا وكل من كتبت له من كرام الخلق أمس واليوم وغدا .. بحر متدفق بالتواصل والعطاء النفسى والروحى بداية من نزول الرسالة إلى أن تقوم الساعة ، وسيبقى هذا البيت العتيق ، وهذا الحرم الأمن إلى أبد الأبدين وكأنه يفصل بين الدين والدنيا ، بين البشر والملائكة ، الداخل فيه مثقل بأوزاره وذنوبه والخارج منه خفيف من أحماله بلاذنوب ، وبين الدخول والخروج ستظل تفاصيل هذه الرحلة الروحية الجميلة رائعة بكل المقاييس .     




واصلنا آداءنا لأشواط الطواف السبعة بجوار الكعبة مباشرة والتى كدنا أن نصل خلالها إلى الحجر الأسعد وكدنا أن نلمسه ، ولكن تدافع الناس حال دون ذلك ، فمن المفارقات الغريبة الإصرار العجيب لبعض الطائفين على اللجوء فى استخدام العنف لتمسكهم بلمس الحجر أو تقبيله ويعتبرون ذلك تبركا ، وهى ليس من العبادة فى شيئ ،  وكما قال سيدنا رسول الله  " إنما الطواف بالبيت والسعى بين الصفا والمروة ورمى الجمار لإقامة ذكر الله " أى أن أداء المناسك فى مجملها ماهو إلا رمز ، الحجر الأسعد رمز ، والكعبة رمز ، والصفا والمروة رمز ، وجبل الرحمة بعرفات رمز ، والمشعل الحرام بالمزدلفة رمز ، والجمرات التى يرجم بها الحجاج الشيطان رمز ، ووجدت أن هناك ربطا بين الرمز والتجرد ، علاقة توثيق لمشهد عظيم ، الرمز دائما يدل على المرموز به أو المسكوت عنه ، والتجرد هو بمثابة إقرار لعبودينا لله الواحد القهار والامتثال لأوامره وتعظيمه وتوقيره دون الوقوف على أسباب منطقية ، لأنها من الأشياء التى تجاوزت إدراك العقل البشرى بكل مكوناته المعرفية ، من هنا يصبح للإجتهاد معنى وسبيلا لحب الله ، والطواف ليس دورانا حول بيت الله تعالى بلا هوية ، وليس السعى والهرولة جريا بلا معنى ، وليس استلام الحجر والركن اليمانى والإشارة إلى الحجر وماينطق به اللسان من تكبير وذكر ودعاء وتلبية وتهليل اجتهادا وافتعالا ، وإنما عبادة وإمتثالا وطاعة ، بأوامر محددة بقدر معلوم وميقات محدد بالأداء والحركة والنشاط العقلى والجسدى والتلفظ  والمشى ، علاقة حسية ووجدانية بالقلب والعقل والجوارح لتعظيم الله تعالى وذكره بالمعنى العام الظاهر والباطن . أتممنا الطواف بأشواطه السبعة ، وخلالها انفصل عنا محمد مصطفى ، ولم نعد نراه ، ولكنه كان أكثرنا وعيا وفهما فى تأدية العمرة حيث سبق له الحج والعمرة بأكثر من مرة . وبعد أن أصبحنا ثلاثة ذهبنا وصلينا ركعتين خلف مقام إبراهيم حيث تيسرت لنا بقدر الله ، ثم اتفقنا على أخذ قسط من الراحة قبيل السعى ، نحاول فيها أن ننزوى فى ركن بالمسجد الحرام حتى ننوء به من الحر الشديد ونستريح قليلا من طول السفر التى بدت أثار إجهاده تظهر على أجسادنا من تعب ووهن ، ومع كل الحرص على الجلوس والراحة ، إلا أننا لم ننس أن نشرب من ماء زمزم المبرد ، فلاخير فى ماء على وجه الأرض من ماء زمزم  ، ورغم أنه أصبح متاحا وفى المتناول أينما وليت وجهك فى المسجد من خلال الأوانى البيضاء الكثيرة المنتشرة مابين مبرد وغير مبرد ، إلا أننا كنا حرصين أن نذهب للبئر نفسها أو على الأقل أثارها ، لأن البئر لم تعد لها وجود على مشهد الطبيعة ، فقد تم ردم مَدخلها أمام واجهة الكعبة المشرَّفة منذ البدء فى مشروع توسعة صحن الطواف المحيط بالكعبة ، وأصبحت هى الأخرى ضمن مشروع التوسعة ، فقد تم تسقيف سطحها المفتوح ليُدمج مع صحن الطواف ، ورغم أنها لم تخرج من ساحة الحرم ، وموجودة فى مكانها ولكننا لم ولن نراها ، حيث استقرت البئر تحت هذا الصحن مُنذ التوسعة الأخيرة للمسجد الحرام.









وبئر زمزم فيها أشرف الماء وأجلها قدرا وأحبها للنفوس وأنفسها عند المسلمين وقد وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه "خير ماء على وجه الأرض ، ففيه طعام من الطعم ، وشفاء من السقم ، وشرّ ماء على وجه الأرض ماء برهوت بقية حضرموت كرجل الجراد من الهوام ، يصبح يتدفق، ويمسي لا بلال بها ". ولماء زمزم قصة ، هى قصة هذا البلد الطيب ولنا أن نتخيل وعورة البيئة المحيطة بها والجبال القاسية التى تتطوقها .. قصة شيقة فى حكاية لانمل من سماعها فى حصة التربية الدينية عندما كنت فى المرحلة الابتدائية ، لازلت هذه القصة محفورة فى ذهنى استحضرها الأن بشغف لأنها قصة فيها ابتلاء وإيثار واجتهاد وإجهاد وتضحية وبذل وعطاء وصبر . بدأت بقدوم النبى إبراهيم إلى مكة بصحبة زوجته هاجر وابنهما إسماعيل حيث أنزلهما موضعا قرب مكة ، وهى أرض قاحلة جدباء لازرع فيها ولاماء ، ثم أمره الله بتركهما فيها ، فتركهما دون زاد إلا قِربة صغيرة من الماء لاتسمن ولاتغنى من جوع ، ثم هم أن يغادر دون أن يلتفت لهما رغم نداءات هاجر المتكررة حيث قالت له : يا ابراهيم ! أين تذهب وتتركنا بهذا الوادى الذى ليس فيه لا أنيس ولا حتى شيئ ؟ ولم يشأ أن يخبرها أن مافعله لم يكن من تلقاء نفسه وإنما فعله بأمر من الله ، فألحت فى السؤال وقالت له ذلك مرارا ، وعندما لم يلتفت إليها أدركت الأمر وقالت له: آيكون الله قد أمرك بهذا ؟ فأجاب عليه السلام : نعم ، قالت : إذن لا يضيعنا الله أبدا ، ثم رجعت ورضيت وقرت ، وعرفت السيدة هاجر أن هذه الوحدة إنما هو ابتلاء وأنها أمام أمر إلهى فسلمت أمرها لله وتوكلت على لطف الله ، وإن كان الموقف صعباً أن تبقى وولديها فى واد يابس لا كلأ فيه ولازاد ولا يوجد ماتستظل به من اشعة الشمس الحارقة أو ماتستتر به لتأوى ولدها من هبوب رياح لفحها كأنها ألسنة من نار . وكان من الصعب على نفسية إبراهيم عليه السلام أن يترك زوجته وابنه الوحيد فى هذا العراء وهذه الأجواء القاسية الشديدة ويفارقهما مغادرا ، فانتظر حتى جاوزهما بمسافة أدرك معها أنهما لا يبصرانه ، ثم رفع يده للسماء  ودعا ربه بدعاء القرآن حيث قال تعالى : "رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ " بعدما نفد الماء الشحيح التى كانت بالقربة ، استهل الطفل بكاءه ، ولم تكن أمه تطيق رؤيته يبكى ، فصدت عنه كى لا تسمعه وراحت يائسة تعدو فى معاناة متألمة من أجل وليدها الظامئ والذى أشرف على الهلاك ، وسعت فى الوادى القفر دأبا طلبا للماء ، فكان الكد والتعب من أجل استمرار الحياة والتغلب على قسوتها ، هى سنة قدرها الله واقتضتها الطبيعة من أجل الأخذ بأسباب الحياة . صعدت هاجر جبل الصفا ثم جبل المروة  وأعياها البحث ساعية بهرولتها ، بينهما يحملها على ذلك قلبها الرحيم بابنها وهو قلب أم خائفة قلقة مضطربة فوق صخور ملتهبة باحثة عن الماء ، ناظرة فى الأفق البعيد علها تجد مغيثًا يغيثها ، حتى كان سعيها بينهما سبع مرات ، فلما وصلت المروة فى المرة الأخيرة سمعت صوتا وهى عائدة إلى ابنها يائسة فقالت : غثنى إن كان عندك خير ، فقام صاحب الصوت وهو جبريل عليه السلام بضرب موضع البئر بعقب قدمه فانفجرت المياه من باطن الأرض برحمة الله وقدرته ، فلما رأت السيدة هاجر الماء دلّت تحيط الرمال وتكومها بيديها لتحفظ الماء وكانت تقول وهى تحثو الرمال زمى زمى ، أى تجمعى تجمعى باللغة السريانية ، خوفا من ضياعها فى الرمال ، فقال جبريل : دعيه فإنها واء - أى: كثير مرو ، وجعلت تغرف من الماء فى سقائها ، وهو يفور بعد ما تغرف . وقد روى بن عباس عن نبى الله محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال : " رحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم ، وفى رواية أخرى : لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عينا معينا "  وفى روايات أخرى للبخارى : فجعلت تشرب من الماء ، ويدر لبنها على صبيها ، فقال لها الملك : لا تخافوا الضيعة ، فإن هاهنا بيت الله ، يبنيه هذا الغلام وأبوه ، وإن الله لا يضيع أهله ، وأيضا أنه قال " لا تخافى أن ينفذ الماء" ، أو : "لا تخافى على أهل هذا الوادى ظمأ ، فإنها عين يشرب بها ضيفان الله" . وهناك قصص قد تكون منتحلة أو لعب فيها الخيال دوره ، ولكن كانت تُحكى لنا من أسلافنا جدى وجدتى رحمة الله عليهما ، وكانت القصص تروى منهما بسلالة ومنطق ترتاح معه النفس ، يقال مثلا أنّ جبريل عليه السلام حفره بجناحيه ، والملائكة أجروا مياهه من أحد انهار الجنة غياثا للسيدة هاجر وابنها اسماعيل عليه السلام ، تمهيدا بأن تكون سقاية لضيوف الرحمن من بعدهما لتصبح آية خالدة للناس على مر العصور والدهور والأزمان . والرواية الأخرى أن السيدة هاجر عندما تعبت من الجرى جلست تدعو الله تعالى وهى تنظر الى طفلها وهو يبكى شدة الظمأ وراح يضرب الأرض بعقب قدميه ، وفى إحدى هذه الضربات تفجر الماء بقوة وغزارة حتى غطى دائرة الطفل ومحيطه ، فسجدت على الأرض تحمد الله وتقدمت إلى طفلها فوجدته يمتلئ حيوية ، وأخذت الماء فى يديها وسقته وشربت حتى إرتويا ماء عذبا حلو المذاق . وأيا ماكان مسار الرواية أو القصة وإن كانت المراجع والمصادر ترجح الرواية الأولى ، إلا أن بئر زمزم ظهرت للوجود ، لتكون سببا بعد ذلك فى وجود مدينة شرفت بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم ، ثم سببا فى بناء البيت العتيق ، ثم سببا فى بناء الأمة الإسلامية وحضارتها . ولمعجزة ماء زمزم أن العلماء لم يستطعوا حتى الأن إيجاد تفسير علمى لمصدر وجوده حيث نفدت جميع المنافذ من المياه من حوله ، ومن هنا كان مصدر وجود المياه فى بئر زمزم دليلا على قدرة الله العظيم . المهم ذهبنا للصانبير الكثيرة وأستل كل منا كوبا بلاستيكيا من مكانه المخصص  وأخذنا نجرع كوبا تلو الكوب ، ثم نلقى بأخر فوق رؤسنا حتى نفيق ، وحمدنا الله أننا نتمتع بكل هذه التسهيلات من امكانيات العصر أن يتوفر لك هذا الكوب وأن تتجرعه مبردا أوغير مبرد . الشيئ الرائع أيضا ولم يكن متوافرا قبل ذلك فى زمن الأجداد والآباء وجود المكيفات المركزية التى لاتكف عن العمل ليلا ونهارا ، وتوافر نقاط إسعاف فى جنبات الحرم لتقدم الدواء لمن ينل منه التعب والإعياء ، وهى امكانات لم يحظ أجدادنا وأباؤنا التمتع بها .





بعد أن طفنا واسترحنا وشربنا من ماء زمزم على قدر استطاعتنا اتجهنا مباشرة إلى أداء شعيرة السعى . والمسعى يقع فى الجزء الشرقى من المسجد الحرام ، بل وأصبح جزءا منه ، ولازال يجرى توسعته بشكل يتناسب مع الإمتداد الأفقى والرأسى للحرم . بلغنا المسعى الأرضى مباشرة من صحن الحرم بعد أن تجاوزناه فى دقائق ، وكنا قد اتفقنا أن نؤديها فيه دون الأدوار العليا التى أتت بها التوسعة ، وعند صخور جبل الصفا كانت بداية السعى ، وهاهى صخورها محاطة بحاجز زجاجى للمحافظة على هيئتها التى كانت عليها ، وماتم هنا تم أيضا حول جبل المروة بالقبو ليتمكن الساعون من رؤية جبلى الصفا والمروة بسهولة . مشروع التوسعة والتطوير شمل كل شيئ هنا ، حيث جاءت التوسعة الجديدة لتضاف إلى إنجازات سابقة فقد زادت مساحة المسعى الكلى إلى الضعف مع توسعته وازدواجه ، لتكون التوسعة الجديدة بحجم المسعى القديم نفسه باتجاه الساحة الشرقية ، المسار الجديد للسعى  جُعل للذاهبين من الصفا إلى المروة وخُصص للأشواط الفردية ، والمسار القديم أصبح للعائدين من المروة إلى الصفا وخُصص للأشواط الزوجية ، يفصلهما ممر يتوفر على جانبيه صنابير كثيرة لماء زمزم ، هذا الممر خُصص لكبار السن والمرضى ولذوى الاحتياجات الخاصة الذين تعوذهم صحتهم ركوب عجلات متحركة وفرتها إدارة الحرم لهم مجانا ، وحديثا تم توفير سيارات كهربائية للغرض ذاته ، إضافة إلى توفير مناطق للتجمع عند منطقتى الصفا والمروة . وهناك رأيت من يدفع أمه أو يحمل أبيه ، ولكم تمنيت لو أتيحت الفرصة لأمى أن تأتى إلى هذه البقاع المقدسة ذلك ماكانت تتمناه وتطمح إليه أن يتحقق ، لكن لم يتوفر لها أسبابه ، وشاءت مشيئة الله أن ترحل قبل تحقيقها ، أما الفرصة فقد توافرت لأبى وتحققت له بفضل الله عن طريق إجراء قرعة مجانية تبع جهة عمله لم يشأ أن يتقدم لها ، ولم يكن بمقدوره أن يحلم بها ، ولم يعلم بها ، فالذى وضع اسمه فيها زملاؤه ، والذى اختاره للرحلة المقدسة الله سبحانه وتعالى ، حيث تفاجأ بها ، وكانت فرحته عارمة لاتوصف ، رحم الله أبى وأمى .









ومشروع توسعة المسعى وتطويره يعد انجازا حضاريا بكل المقاييس ،  الهدف منه أنه يسهل على ضيوف بيت الله أداء نسكهم فى راحة وطمأنينة تضمهم أجواء روحانية ، وفى طراز معمارى فريد يراعى عظمة المكان وحرمة المشاعر بالإضافة إلى سلامتهم ، ليعودوا بذكرى إيمانية لا تفارق أذهانهم . لذلك جاءت التوسعة بطراز معمارى فريد نُفذت فيه أعمال البناء فى وقت قياسى باستخدام أحدث تقنيات وأنظمة البناء الحديث مراعيا الاعتبارات الشرعية والجغرافية ، فقد راعى مضاعفة مساحته الأفقية والعمودية ، حيث تعددت أدواره وأصبحت أربعة مما سهل ويسر كثيرا الحركة داخله ، والدخول إليه والخروج منه دون عناء أو مضايقة ، وهو ما يعنى بالتأكيد تخفيف الازدحام بشكل ملحوظ  ، فقد  تم ربطها جميعا بستة جسور شمال الحرم بالصحن مباشرة كمخارج مؤقتة لفصل حركة الدخول والخروج عن سطح الحرم ، تم تزويدها بمزلقانات وسلالم كهربائية ومصاعد ، مع إجراء عملية توافق المسعى فى وضعه الجديد بسطح المسجد الحرام بالعمل على إيجاد مناطق لاتصاله بالدور الأول تشمل مخارج مؤقتة وهو مايجرى عمله الأن وشاهدناه بأعيننا . كما كان لجماليات تنظيم أعمال الديكورات فضلاً كبيرا فى إزالة رخام المسعى القديم من جدران وأرضيات ، وإعادة بنائه من جديد بتركيب رخام ملون راقى المستوى جودته عالية ، بما يتسق مع المسعى الجديد ، كما تم توزيع إضاءته بصورة جيدة وكذلك مراعاة تنظيم الصوت داخله ، وتهويته بالتهوية المناسبة عن طريق المكيفات التى طالت كل جزء فيه شأنه فى ذلك شأن ماتم فى الحرم من مركزية التهوية والتكييف ، كما بدئ فى بناء مئذنة جديدة ليتناسب عدد المآذن وشكلها مع مساحة التوسعة الجديدة للمسعى . والذى يعجزك أن هذا المشروع تم عمله بتوازن مبهر داخل المسعى فى وجود ضيوف الرحمن أثناء تأدية مناسكهم التى لاتنقطع لحظة واحدة ، ودون أن يتعرضوا لأية مضايقات أو أذى أثناء العمل المتواصل ليل نهار ، فضلا عن أنه  أضفى شعورا بالفخامة والرقى لديهم ، وبدا لهم وكأنهم أمام بهو كبير فى قصر من القصور الخلافة الأندلسية مترامية الأطراف مهيبة الطلعة ، ثم يتوسطه البيت العتيق ، قبلة المسلمين ، ياله من جمال أن تمضى ساعيا من هذا المكان وبداخلك انعكاسات رائعة بأثر طيب عن طبيعة المكان بما ينطوى عليه من إضفاء هذا السحر وكل هذا البهاء لهيبته التى تتناسب مع فخامته ومكانته السامية فى النفس .. بل وفى كل نفوس الحجاج والمعتمرين الذين يتوافدون هنا بدوام متصل وبلا انقطاع ، ويبعث فيها الراحة والسكينة والتأمل ، وخاصة أن هذه التوسعات راعت بل وفرت مجالا لرؤية الكعبة المشرفة أثناء السعى من بين فراغات المسجد وأعمدته ، حيث كنا نرى من يطوفون بالكعبة من زوايا شتى بمنتهى السهولة واليسر ، وكنا نرى حمام الحمى ينتشر هنا وهناك . هذا المشهد المهيب ذهب بى إلى الماضى البعيد ، إلى قصة السعى نفسها وأصل مشروعيته ، حيث توفرت لها كل عناصر الجمال فى مفرداتها ومقومات الدقة وروعة الوصف ، فالسعى بين الصفا والمروة مأخوذ من نفس القصة التى سبق وأن تكلمنا فيها عندما اتجهنا للشرب من ماء زمزم والحديث عن البئر التى تفجرت فأثرت الحياة فى أرض قاحلة بور ، قصة السيدة هاجر أم إسماعيل عليه وعلى نبينا السلام فى طلب الماء ، ولكننى أعنى هنا سعيها وطوافها ، الخطوات التى أدت إلى نقطة الوصول فى نهاية القصة بتفجر ينبوع الماء . فعندما نفذ ما فى السقاء عطشت وعطش ابنها ،  وجعلت تنظر إليه يتلوى أو قال يتلبط - أى: يتمرغ ويضرب بنفسه الأرض - وفى رواية أخرى للبخاري "كأنه ينشغ للموت" أى يشهق ويعلو صوته وينخفض كالذى ينازع - فلم تقرها نفسها أن تنظر إليه على هذا الحال ، وانطلقت كراهة فوجدت الصفا أقرب جبل فى الأرض يليها فقامت عليه، ثم استقبلت الوادى تنظر هل ترى أحداً فلم تر أحداً ، فهبطت من الصفا ، حتى إذا بلغت الوادى رفعت طرف درعها - أى قميصها - ثم سعت سعى الإنسان المجهود ، حتى جاوزت الوادى ، ثم أتت المروة فقامت عليها ، فنظرت هل ترى أحداً ؟ فلم تر أحداً ، ففعلت ذلك سبع مرات . قال ابن عباس : قال النبى صلى الله عليه وسلم : " فذلك سعى الناس بينهما " ، إذن المطلوب فى عدد مرات السعى هى كذلك سبع .







 




تأهبنا للسعى عندما بلغنا جبل الصفا ولما دنونا منه قرأنا قوله تعالى: " إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ " ثم ارتقينا على الصفا حتى رأينا الكعبة فاستقبلناها، ورفعنا أيدينا مكبيرن حامدين لله شاكرين ، ودعونا بما شئنا أن ندعو ، ثم نزلنا ومشينا من الصفا إلى المروة ومتى وصلنا إلى النور الأخضر وهو بداية المنطقة التى يجب أن يهرول فيها الإنسان ومنها يرمل أى المشى السريع فى المسعى حتى يصل إلى الميل الأخضر الأخر ، فهرولنا بينهما بقدر ما استطعنا إن يتيسر لنا بلا مبالغة ، حتى وصلنا إلى أخر النور الأخضر ، فعدنا نمشى حتى وصلنا المروة ، فارتقينا عليها ، واستقبلنا القبلة ، ورفعنا أيدينا تجاه الكعبة من زاوية رأيناها فيها ، وقلنا ما قالناه على الصفا ، والمشى من الصفا إلى المروة يعتبر شوطاً ، والمجيئ من المروة إلى الصفا يعتبر شوطاً أخر . هكذا اتممنا الأشواط السبعة بدءا من الصفا وانتهاء بالمروة بحمد الله تعالى وتوفيقه ، ومن السعى بين جبلين إلى السعى فى الدنيا ، ومع الكد الإنسانى ينفجر الماء ، ويتدفق العطاء ، وكلما اجتهدنا وسعينا تدفقت الحياة وأعطت بغزارة حتى تأتى لحظة الوصول إلى النهاية ، نهاية المسعى ، وها نحن وصلنا لنهاية المسعى وأتممنا العمرة ونسأل الله عز وجل أن يتقبلها منا . بدأ أثر الإجهاد يظهر علينا شديدا ، ولم يتبق لنا عمل فى هذا اليوم سوى التحلل من ملابس الإحرام ، فكان لابد أن نحلق رؤسنا أو نقصر، وإن كان الحلق أولى ، إلا أن قصر الشعر فى وضعنا كمتمتعين للحج لهو الأفضل ، فاتفقنا على أن نعود للفندق ، وهناك قام كل منا بتقصير شعر الأخر ، ثم تحللنا من ملابس الإحرام ، وبهذا نكون قد أنهينا عمرتنا بخير وسلام وأمان ، وأصبح لنا أن نتمتع بما شئنا مما كان محرماً علينا وقت الإحرام ، استحضرنا نعمة الله علينا، شاكرين له ، طالبين القبول وأن يوفقنا فيما نحن مقبولون عليه من آداء فريضة الحج بمزيد من فضله. وفى الفندق أخذنا حماما منعشا ، ولم ندر بأنفسنا حين ألقينا بها على السرير دون أن ينبس أحد منا بكلمة ، ورحنا نغض فى نوم عميق ، فغدا ستبدأ الرحلة المقدسة .. إلى عرفات الله .
 
وإلى لقاء فى أرض الله المقدسة عرفة ، والجزء الرابع ، فإلى حينه لكم منى أسعد الأوقات ، وأطيب المنى ،،،



مع خالص تحياتى : عصام                
 القاهرة فى 22 مارس سنة 2016