كلاسكيات مصرية

الاثنين، 12 سبتمبر 2016

خطوات على طريق الله ( الجزء الرابع )



أتممنا العمرة بحمد الله وتحللنا ، وجاءت الليلة الموعودة ، وتحركت بنا الحافلة بعد صلاة العشاء من ساحة الحرم بوقت كاف ، وكنت قد تهيأت لهذا الحدث العظيم ، بحالة من الصفاء التام شملت كل مافى نفسى وعقلى ، حيث أُعدا إعدادا خاصا ، وكأنهما كانا فى ظلمة وأضيئا فجأة ، ورأيت مالم أر ، وسمعت مالم أسمع ، نور منسحب داخلى .. مريح ، وأطياف منسربة من الأجواء حولى تمازجت ، تداخلت ، فأشرق شيئ ، انفتح شيئ ، أمتلأت بشئ ، لاأعرف هذا الشيئ ، ولكنه  شيئ فيه إطلالة من دفء وفيه حرارة من وهج وفيه زلزلة شديدة ، إننى مع التلبية والتهليل والدعاء أحسست بقوة هائلة من داخلى تدفعنى إلى الأمام ، أحسست بانتقال وجدانى راق يتملكنى ، يحتوينى ، يرتفع بى إلى عنان السماء ، ليطوف حولها ، ثم يهبط بى إلى الأرض لأسعى بطولها وعرضها .. وكلما لبيت مع الملبيين " لبيك اللهم لبيك . لبيك لاشريك لك لبيك . إن الحمد والنعمة لك والملك . لاشريك لك لبيك " أشعر بشفافية الإرتقاء ، وكشف الحُجب ، وكأن شيئا ما ينادينى من وراء هذه الجبال السوداء التى أحاطت بنا من كل جانب .. وأحكمت علينا من كل اتجاه ، وكأن هذه الحُجب تفصلنا عن حدود الدنيا ، وجعلت الطريق من مكة لعرفات حدا فاصلا بين دنيا ودين .. بين الحق والباطل .. بين المدارك الجزئية والمعارف الكلية .. بين دنيا الناس ودنيا الله . حتى حانت لحظة شعرت فيها بالسكينة والانشراح وبيقين جازم أن الله موجود هنا فى كل بقعة متجهة إلى عرفات ، يسمع دعائى الخفى وتلبياتى الجاهرة ، شعرت بقشعريرة تسرى فى كل جسدى ثم يرتعد ، وخفقان فى القلب ثم ينتفض ، لقد دخلت جسمانيا ونفسيا فى ذوبان هذا الفيض ، حاولت أن أنفذ من خلال هذا الخضم المكثف إلى ماهو أبعد وإلى ماهو أعمق ، لدرجة التذويب الكلى . لم تكن هناك دهشة للرفاق عندما صرت باكيا ، وخاصة من كان يجلس خلفى على يسارى ، وكان قد سبق له الحج أن يربت على كتفى : أبشر ياأخى هذا فيض من الرحمن ، ورغم أن كل شيئ حولى يدعو لذلك ، فلم أشأ أن أرد عليه أو أنبس بكلمة واحدة ،  لازالت الدموع تنهمر .. الدموع هنا مجرد تعبير صامت لايقابله كلمات تُقال أو كلمات تُكتب ، الموقف يتصاعد .. جم يُنطق الحجر .. ويجعل كل شيئ هنا  يضيئ برقا .. يمر مرقا .. يظهر خفيا .. ينطلق من حيث لاتدرى ، حاولت مرارا أن أخفى دموعى وألا يرمقنى أحد ، كنت أريد ألا يراها أحد غيره ، وأن اتزلل له بها بإلحاح أن يشملنى بعفوه ورضاه ، وكلما جففتها بيدى أو كففتها بإحرامى ازدادت وسحت أكثر، كل شيئ هنا يدعو لإثارة الدموع ، بل ومزيد من الدموع ، إن الدموع التى سقطت من عينى لم تكن بإرادتى ، بل كانت مناجاة لله الذى شرفنى هذا الشرف العظيم وهذا التفضل الطيب الكريم لوجودى هنا الأن ومعايشة هذه اللحظات التى لاتتكرر فى العمر إلا قليلا ، وأيقنت أن الطريق لم يكن متجها من مكة إلى عرفات ، ولكن كان متجها إلى الله مباشرة ، طريق يبدأ من القلب وينتهى إلى القلب ، والله يدخل لقلب الإنسان من باب لاباب له . وإذا دخل تضاء بداخلنا طاقة من نور مشع تشبه وإلى حد كبير طاقة القدر ، أو طاقة السعادة ، فتنشرح النفس وتمتلئ بهجة وسكينة .




أخيرا أصبحنا على مقربة من دخول حدود عرفة ، توقف بنا المسير هنيهة ، فالزحام مطبق ، والأنفاس متهدجة ، جاء التوقف وكأنه فرصة لإلتقاط الأنفاس ودعوة صريحة للتأمل واستشراف للحظات التى ستحين بعد قليل ، ومن فرط سعادتى وقفت كثيرا عند مقولة أن الحج مشقة وتعب ، فأنا لم آت إلى هنا كى أتعب ، بل جئت كى استريح ، إن التعب الجسمانى مشقته أهون بكثير من الفقد الوجدانى ، ومن زعزعة الاستقرار النفسى ، ومن محاسبة الضمير وسط هذا الخضم من كبد الحياة وزخمها ، والنفس لاتتعب إلا إذا بعدت عن الحقيقة ، أو رأت الحقيقة فى غير موضعها ، أو سلمت بها نقلا لأنها لم تدركها بنفسها ، وكثير من الناس جاءوا إلى الدنيا وعاشوا ثم ذهبوا ولم يعووا كنهة هذه الحقيقة ، لأنهم عاشوا لمجرد الحياة يأكلون ويشربون فقط لا لكى يتفكروا ويتدبروا ، لذلك  نرى أن النفس الحائرة تتعب صاحبها وهى تبحث عن الحقيقة لدرجة أنها قد تتسبب فى هلاكه ، والباحثون عنها من الفلاسفة والمفكرين إن لم يهتدوا إليها هانت عليهم حياتهم إما أن يُقدموا على الانتحار أو يصيبهم المس والجنون ، والناس إن لم يتدبروا فهم كالأنعام بل هم أضل سبيلا " أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً " . ففى بلد مثل السويد ، رغم أنها أكثر البلاد فى أوروبا جمالا للطبيعة ، وتمتلك ثروات كثيرة تكفى عدد سكانها وتفيض ، إذ يعيشون فى رفاهية تامة ، حيث يمثل دخل الفرد فيها أعلى نسبة دخل فى العالم ، إلا أن نسبة الانتحار فيها عالية جدا ، لماذا ؟ لأنهم لم يعرفوا بعد معنى السعادة ، والسعادة لاتأتى إلا بالطمأنينة ، والطمأنينة لاتأنى إلا بالإيمان ، والإيمان لايأتى إلا بذكر الله ، وذكر الله إنما ينبنى على تدبر وفكر ، وهى الحقيقة الغائبة عنهم " الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب " ، لذلك فإن مفردات : الطواف والسعى والدعاء والوقوف والإفاضة والنفرة والرمى إنما جاءت رمزا للحقيقة ، لتؤكد أن هناك قوة هائلة تحث الإنسان إلى الفكر والتأمل والتدبر ، قوة روحية تدفع الملايين إلى شيئ ، وحول شيئ ، هذا الشيئ إذا وصلنا إليه وجدنا فيه صفاء عقل ، وانشراح صدر ، ووضوح رؤية ، وصلاح فكر ، وهداية ضمير ، هذا الشيئ هو الحقيقة المطلقة لوجود الله حقا .. هنا سنشعر بالمنح الإلهى للكون .. أوعطايا الرحمن للبشر دون الأكل الشراب والمأوى ، وإنما أعلى بكثير ، إنه شيئ يتعلق بالارتقاء والوصول ، عالم من الروحانيات التى تسمو بالإنسان لتصل به إلى أعلى درجات من الشفافية ، حكمة اقتضتها السماء ، أن يكون كل هذا المنح وبسخاء من هنا ، من هذه البقعة الطاهرة المقدسة من أرض الله ، لمعرفة الحقيقة بالتأمل والاحساس ، وبالإدراك المعنوى والحركى ، والمعايشة بالرؤية أيضا ، لاأن نسلم بها فقط ونأخذها بالتلقى من آبائنا وأجدادنا . هنا نرى الحقائق واضحة تعيها قلوبنا قبل عقولنا وتغمر كل مشاعرنا الإنسانية الحسية والروحية . نعم هنا شعرت بأننى قطعت هذا الطريق الطويل الواسع من حياتى ، حتى أصل إليها ،  كى أرى ماأراه ولم أكن قبل ذلك أراه  .. وأحس ماأحسه ولم أكن قبل ذلك أعرفه ، اليوم أشرق فى نفسى مالا أعرفه عن نفسى ، ولا أعرف أن أصفه للأخرين ، هنا لابد أن تعيش التجربة الفريدة بنفسك ، أو المناسبة الجليلة وحدك ، مختزلة بزمن معين وأماكن محددة ، لو خرجت عن إطارها فسدت ، لذا جاء الحرص على أدائها ولو مرة واحدة فى العمر حتى تصل إلى مالاتعرفه من قبل من حقيقة وجود الله والكون ، لتعيد النظر فى نفسك وتعرف أين أنت ، من أى شيئ .. أين أنت من ذاتك .. أين أنت من الناس .. أين أنت من الشيطان .. أين أنت من الله ، إنها خطوة على طريق الحق .. وحظوة للنفس أن يتم اختيارها لهذا الموقف العظيم ، كى تنعم بفرصة المراجعة بالتجرد .. والتطلع بالشفافية ، هنا فقط الفرصة ستمنح لك كى تراجعها وتقسو عليها وتهذبها من جديد ، حتى تعيدها مرة أخرى لسيرتها الأولى التى خلقها الله عليها بيضاء من غير كدر ، لها أنوار داخلية متلألئة .. فى النفس والضمير . 







وهاهى خطواتى قد بلغت مناها ، هنا فى هذه المساحات الرحبة التى لم أر مثلها من قبل .. هذا الفراغ الممتد فى أرض لم تكن هى الأرض الصحراوية القاحلة التى سبق وأن زرتها عند أدائى للعمرة منذ سنتين .. حيث وجدتها أرضا قاحلة تفتقد للعشب والكلأ والماء ، ولاتنتهى إلا بانطباق السماء عليها فى نهاية مرمى البصر ، ولكن اليوم أراها وكأنها علبة صغيرة ، محفوفة المساحة .. مسترهبة ومؤهبة لصعود الملايين إليها ، تراها العين فتنجذب إليها .. يراها القلب فيحبها ويعشقها ، حقا إنها تخطف قلبك من أول لحظة تخطها قدماك فيها ، وأتعجب أحقا هذه هى الأرض التى سبق وأن زرتها من قبل ، ورأتها عينى مثلما رأتها أعين الناس مجرد أرض بيداء مقفهرة ، كيف تحولت إلى هذا الإنجذاب المفرط مع هذا الموقف العظيم ، كيف سلبتنا كل مواطن الروعة بداخلنا بهذا المأخذ العجيب الذى نبدو عليه الأن ، أعود وأقول لنفسى سبحانك يارب على تجلياتك وجلالك وعظمتك ، إنها حكمة ربما مثلتها المفارقة بينها وبين الأرض الخصبة فى هولندا مثلا والتى تراها أعين الناس أجمل وأفضل وأرحب ماقدمت الطبيعة للدنيا .. أرض سهولية منخفضة ، محصورة بين الجبال تحتوى على أودية تتدفق من خلالها الأنهار الكثيرة  ، فهى تملأ الناس كل جوانحهم ، بألوانها وسحرها ، ولكنك فى النهاية لاتفضلها عليها . فإن كانت الطبيعة فى هولندا الأكثر جمالا فى العالم بهذا المزج الذى تعشقه العين ، وتطرب له النفس ، إلا إنك هنا فقط ستعرف الفرق بين أرض منحتها الطبيعة كل آيات الجمال وبين أرض تجلت فيها قدرة الله والإحساس بتفضل وجود ذاته العلية فوقها ، أرض الله المقدسة ، شتان بين هذه وتلك ، إن أرض عرفة لها آفاق ، لايعادلها مثيل ، لقد بدت لى وقد أنفتحت جلية رحبة صافية مرحبة ، الأن فقط أشعر بأن صدرى يتنفس وكأنه لم يتنفس من قبل ، الأن أشعر بأننى مستريح . إننى لاأملك وأنا استشرف هذا الموقف الجليل إلا أن أرفع أكف الضراعة لله عز وجل حمدا وشكرا بأنه جعلنى من السعداء وكتبها لى ، وأننى سأحل ضيفا فى أرضه .. أرض الله الطيبة فى يوم تجلت له ملكوت السموات والأرض ، تلك الأرض التى ستقربنى لله وستبعدنى تماما عن كل العلائق الدنيوية التى ستتعطل هنا ، وسيتعطل معها كل شيئ ، إننى لم أعد أتذكر شيئا ، لقد فارقت الأهل والأولاد والأحباب وكل الخلائق ، ولم أتذكر سوى أن الله من علىّ بحج بيته العظيم ، لأكون فى معيته ورحابه ، وياسعد من كتبها له أو سيكتبها له ويكون له نصيب فيها .




وصلنا للإقامة فى عرفة مع أولى نسمات صباح يوم التاسع من ذى الحجة بعد أن تجاوزت الساعة الثانية عشرة ، على أننا سنبقى بها حتى نغادرها قبل غروب الشمس ، والمطلوب فى هذا اليوم أن الإنسان يقف متأملا لكل شيئ حوله ، ويفكر مستعرضا حياته أمس واليوم وغدا ، والرسول يقول الحج عرفة ، أى أن الوقوف فى عرفة هو الحج ، وإنما لاوقوف بعرفة ، وإنما أماكن للإقامة وجلوس داخل مخيمات وخارجها ، على المقاعد وعلى الأرض ، وعلى الأرصفة وبطول الطرقات وعرضها . يبدأ عادة بالهدوء ، ثم سرعان مايتحول إلى زخم وصخب وزحام شديد وانتقالات وثرثرة وكلام ، وبحث عن طعام وشراب ، ومع تقدم الوقت يشتد الزحام ويحتدم ، وخاصة الطرق المؤدية خارج وداخل عرفة ، كلها تئن من تدافع الحافلات القادمة ، والمشاة من الحجاج الذين يسيرون على أقدامهم فرادى وجماعات صغيرة وكبيرة ، الكل ينخرط فى بعضه فى خضم هذا الطوفان مندفعين فى اتجاه واحد ثم يتفرقون فى كل الطرق داخل عرفة ، وهذا كان يؤدى إلى توقف حركة المرور تماما ، مما استوجب معه تواجدا أمنيا وصحيا مكثفا فى كل أرجاء عرفة ، فكانت هناك سيارات الشرطة والإسعاف تملأ الساحات بكثافة تشق من وقت لأخر هذا الزحام الرهيب لتكفل الحجاج راحتهم ، فكثيرا ماكنت اسمع سريناتها وأبواقها تنتشر فى ربوع المكان كله تنادى على الحجيج من خلال الميكروفونات أن يفسحوا لهم هذا الحشر العظيم ليؤمنوا لهم المكان ويوجهوهم إلى اتجاهات المسير وكيفيته للمحافظة على أمنهم وسلامتهم . رأيت الحجاج وكأنهم بلا هوية يتعاملون بعفوية شديدة ، الكل هنا يتعامل مع الموقف بلاتوجه ، اللهم إلا بعض الإرشادات التى تؤمن الحجاج عدم الخروج عن حدود عرفة ، لذا كانت الإرتجالية والعفوية عنوانا صريحا لمعظم الحجيج الذين امتلأت بهم الساحات ، بين ماكانوا يختلون بأنفسهم فى قراءة الذكر والابتهال فرادى وجماعات ، ويتجهون لله بالدعاء واستحضار أسمى معانى التضحية والفداء والمعاناة والصبر ، وبين ما كان يتكلم ويشغل غيره بأحاديث وحكايات ومواقف دنيوية وماذا سيأكل وماذا يشرب ، متواكلين على أن عرفات أرض الله المقدسة تجعلهم صافيين مغسولين من الذنوب والخطايا دون اجتهاد فى أداء المناسك ، ليعودوا كما ولدتهم أمهاتهم لمجرد تواجدهم فى المكان فقط ، أخطأوا خطأ بليغا فى الفكر وغابت عنهم القيمة الحقيقية لما تنطوى عليه شعيرة الحج من دروس وعبر ، وفهم الحديث على غير موضعه ومعناه ، ولم يفكروا أنه من الصعب أن يعود الإنسان كما ولدته أمه وهم بهذه الكيفية ، إن لم يكن الإنسان مجتهدا فى عبادته لله عائدا إليه تائباً مقلعا عن ارتكاب المعاصى وعازماً ألا يعود إليها ، مع إخلاصه فى النية ، واستجلاء التوبة النصوحة ، والعمل وفق شرعة الله ، والمحافظة على حقوق العباد ورد المظالم لأهلها سواء كان فى دين لم يؤده ، أو فى ذمته عهد أو مال أو أمانة لغيره ، وتطهير القلب من كل رجس ، والخشوع فى العبادات ، والبعد عن أى عمل يغضب الله فى التعاملات ، والتحرر من عبودية الجسد والتحفيز على عدم العودة للموبيقات ، ونبذ الدنيا ولذاتها ، والصمت عن الصغائر ، والدعوة المستمرة للتأمل فى ملكوت الله . 





رحت أسأل نفسى سؤالا بتأمل هل كل من وطأت قدماه أرض عرفة الأن يعرف كل هذا ، واجباته ومسئولياته وما له وماعليه نحو ربه ونحو العباد ، ومالذى يستوجب عليه أن يفعله ومالايفعله ؟ ، ثم سألت نفسى سؤالا أخر أوجه ، كيف لإنسان أن يكون مطالبا بأن يعيش بهذه الكيفية ويستطيع أن يوفق أوضاعه مع نفسه ومع الغير فى عالم يعج بالمتناقضات ومحسوب عليه قيمة الاختيار ؟ ، وإن كان صحيحا ستمحى خطاياه كيف يضمن بشرا مثاليا يتعامل معهم من جديد ، كيف يضمن حماية نفسه من شرور الخلق بعد العودة من ارتكاب حماقات جديدة ، أو تجنب أية إخفاقات محتملة فى الحياة ، وحتى لو انزاحت الأن عنه وتجاوزها بارتياح وهو مايرجى تحقيقه هنا ويرجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه ، هل سيتوقف فى التعامل مع الناس .. كل الناس باختلاف نفوسهم وانماطهم واتجاهاتهم وطبائعهم وسرائرهم التى تتسم بما تقتضى به الحياة من خير وشر ؟! ، وعلى افتراض أنه صار شفافا نقيا صافيا ، هل الذين سيتعامل معهم سيكونون كذلك ؟! لاأظن ، فليس البشر ملائكة ، ولا توجد ملائكة تمشى على الأرض حتى يستمر الإنسان نقيا كيوم ولدته أمه إثر رجوعه للدنيا وللناس ، فحتما سيعود إليهم ويستأنف حياته بهم ويتواصل معهم ، وسيتفق ويختلف بالضرورة ، فهو منهم وبهم .. معهم وضدهم ، وسيعانى من جديد كل متاعب الدنيا حلوها ومرها ، إذن من الصعب جدا أن يستمر الإنسان من الكدر صافيا ، شفافا كيوم ولدته أمه .. إن الذى يذهب للحج لمجرد تأدية واجب ولايعيش المعنى الحقيقى لهذه الفريضة والإستفادة منها فى حياته لن يعود كما ولدته أمه ، إن الذى يؤذى الناس بيده أو لسانه لن يعود كما ولدته أمه ، ولا من احترف النصب والاحتيال والسرقة سيعود كما ولدته أمه ، الراقصة التى ذهبت للحج ثم تعود وتمارس الرقص والفجور لن تعود كما ولدتها أمها ، البائع الذى يبخس للناس أشياءهم ، أو الذى يروج المخدرات وبيع الخمور لن يعود كما ولدته أمه ، المرتشون ومن يمارسون الدعارة ومن يحترفون الفساد فى أعمالهم لن يعودوا كما ولدتهم أمهاتهم ، الصحفيون الذين يتاجرون بالكلمة ويعملون لصالح أجندات خاصة وعامة ولأشخاص وباعوا ضمائرهم لن يعودوا كما ولدتهم أمهاتهم ، الفسدة من النخب وكبراء البلد والوزراء ورجال الأعمال والفنانين والمشاهير فى مختلف المجالات والأنشطة الذين يحجون على نفقة الدولة أو على نفقاتهم الخاصة المشكوك فى حليتها ونزاهتها ، أو يحصلون على تأشيرات الحج بالتحايل والوسطات ثم يقومون ببيعها لغيرهم بأثمان باهظة لن يعودوا كما ولدتهم أمهاتهم ، وغيرهم وغيرهم ، فليس كل من وقف بعرفة الأن سيعود كما ولدته أمه ، إن الحج لا يكفر الذنوب التى لم يتب منها صاحبها ، أو لم تكن لديه النية ألا يعود إليها .. فعل المعصية وقت الطاعة يبطل الطاعة ، فعل المعصية التى لايدرى صاحبها أنها معصية تبطل طاعته وتفسد عليه حجته ، والذنوب التى باعثها حقارة النفس تعد من أكبر الكبائر ، إن الذنب يتضاعف هنا كما يتضاعف ثواب الطاعة أضعافاً كثيرة . إلا إذا عاش الإنسان فى عالم من المثالية ، عالم ذو نزعة إشراقية روحية إرتقائية .. عالم شديد الشفافية لايبلغه إلا من تطهرت نفسه تماما من العلائق الدنيوية التى نعيش فيها بكل مقوماتها المادية وعزم ألا يعود إليها مطلقا ، فتغدو زكية بعد أن تبرأت من الهوى والكبر والرياء والحسد وغيره من الآفات  ، عالم فيه رجال صدقوا ماعاهدوا الله عليه اتخذوا من دينهم منهاجا وشرعة ، لكن أين هذا العالم الأن من الوجود ، وأين هؤلاء ؟ ، إننى أعتقد أن هذا العالم من عالمنا الحالى لاوجود له ، مجرد عالم افتراضى لايوجد إلا فى دولة رسول الله وصحبه الكرام وكتب التاريخ والنظريات الفلسفية ، وحتى الدولة الإسلامية نفسها التى وصلت يوما إلى حدود الصين فى عهد سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه وأرضاه انحسرت بشدة واختل توازنها  مع بداية الصراع على تولى الخلافة فى أواخر عهد الخلفاء الراشدين وإلى يومنا هذا لم تعد هذه الدولة التى كادت أن تجتاح العالم بأسره ، والسبب هو التكالب على الدنيا ومصالحها والبعد عن الطريق القويم الذى رسمه لنا رسول الله .. طريق الله . 


على كل يكفى لمن جاء إلى هذه البقعة المقدسة وكانت نيته صافية لله أن يُمنح فرصة هذا المد المعنوى لتجاوز الذنوب ، وأن الخطايا التى ارتكبها فى الزمن الماضى انزاحت عنه وتركته بفضل الله الذى يجزل العطاء على عباده من الموعودين بالفوز برضاه فى هذا اليوم الأغر ، ليأخذ منها منطلقا جديدا ونهجا قويما فى تحديد اتجاه حياتى جديد إثر هذه الرحلة الطيبة والخروج منها بحج مبرور ، ثم يوجه بقية حياته إليها . إننا لو أمعنا النظر فى معنى كلمة "مبرور" ذاتها فى اللغة  نجدها محددة لاتأويل فيها أى حج لايخالطه شيئ من المآثم ، وأى شيئ مبرور لا شبهة فيه ولا كذب ولا خيانة ، وما أكثر أحاديث رسول الله فى صحيح البخارى التى تؤكد لنا هذا المعنى وهو الذى لاينطق عن الهوى ، فقد جاء عن أبى هريرة أنه قال : " أن رسول الله سُئل أى العمل أفضل ؟ فقال : إيمان بالله ورسوله ، قيل : ثم ماذا ؟ قال : الجهاد فى سبيل الله ، قيل : ثم ماذا ؟ قال : حج مبرور " ، كما قال صلى الله عليه وسلم : " العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما ، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة " ، ومما ورد أيضا فى صحيح البخارى عن هذا السياق أن عائشة رضى الله عنها قالت : قلت لرسول الله "يا رسول الله ، نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد ؟ قال : لكن أفضل من الجهاد حج مبرور" ، وورد فى صحيح مسلم عن عائشة أن رسول الله قال : " ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة ". ويكفى فقط من بركة هذا اليوم العظيم المشهود أن الله عز وجل يتجلى وينزل إلى سماء الدنيا ليباهى ملائكته بهذا الحشد الرائع الواقف بصعيد عرفة فيقول : "هؤلاء عبادى جاءونى شُعثًا غُبرًا من كل فجٍ عميقٍ يرجون رحمتى ويخافون عذابى ولم يرونى فكيف لو رأونى ؟ فلو كان على الإنسان مثل رمل عالج أو مثل أيام الدنيا أو مثل قطر السماء ذنوبًا غسلتها عنه ، وأما رمى الجمار فإنه مدخور له ، وأما حلق الرأس فإن له بكل شعرة تسقط  حسنة فإذا طاف بالبيت خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه " ، لذا يستحب فى يوم عرفة على من تواجد فيه وحضره أن يكثر من الدعاء والتلبية تصديقا لقوله صلى الله عليه وسلم : " خير الدعاء دعاء يوم عرفة وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلى لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيئ قدير"، فالخروج من الذنوب كيوم ولدته أمه ، ماهو إلا ضمانة وتحفيز لمواصلة الإنسان النهج القويم فى حياته كى يصل إلى حالة من الصفاء التام والشفافية العالية والاتصال بالله فى كل وقت وحين ، ووقتها سيجده قريبا يجيب دعوته إذا مادعاه . وهو سبحانه الذى كتب على نفسه الرحمة ، فرحمته وسعت كل شيئ ، وهى ضمانة أخرى للإنسان أن يرجو رحمة ربه وأن يطمع فى رضوانه وجنته ، لأنه مهما كان أخلاصنا فى العمل ، ومهما كانت نياتنا وأعمالنا فى الدنيا صادقة ، فإننا لن ندخل الجنة إلا برحمته فقط ، لذلك فإن العفو  منحة ربانية لاتُمنح من غيره ، وتوزع بسخاء من هذه البقعة الطاهرة لمن جاء عرفة وخلصت نواياه لله .



وصلنا إلى المكان المخصص لنا بعرفات شارع 56 (الجوهرة) أمام مستشفى نمرة ، انفصل الرجال عن السيدات فى خيمتين ، نحن فى خيمة وهن فى الخيمة المجاورة لنا ، تم توزيعنا بسهولة ويسر ، حيث وجدنا بطاقات معلقة على كل أريكة مكتوب فيها اسم الحاج برقم مسلسل واسم المطوف ، هذه الأريكة تتحول فى غمضة عين لسرير ، وذلك بفردها وجذبها إلى الخلف . هكذا فعلنا بعد أن عرف كل منا مكانه ، ثم قمنا بفرشها بما وزع علينا من فروش تسلمناها فى الفندق ، وجعلناها جاهزة للنوم فى أى وقت شئنا ، فاليوم مازال فى أوله ، ولكن لاحظت منذ دخولنا إلى الخيمة أننا لم نشعر بأى نسمة هواء ، رغم أن المطوف أكد لنا أنها مكيفة ، فلاأثر لوجود هذا التكييف البته ربما كان معطلا أو طاقته الإستعابية لم تف وعدد الموجودين ، فهى كما تبدو أنها مكيفات مركزية ، أى توزع الهواء على المشاع لعدد من الخيام ، لذلك جاء تأثيرها ضعيفا ، والغريب فى الأمر أنه لم تكن المكيفات فقط هى مثار التساؤلات ، بل هناك أشياء أخرى كانت تحبطنا وتجعلنا فى دهشة وحيرة بسبب التباين الشديد بين ماسبق وقيل لنا عن جاهزية محل الإقامة فى عرفة ، ووصفه بأنه على مستوى عال ، وبين ماوجدناه على أرض الواقع وخاصة فيما يتعلق بدورة المياة التى وجدناها أسوأ مما كنا نتخيل أو يتخيل أى بشر منصف . وهذا ملكنا لحالة من الضيق المطبق وجعل الجميع هنا يشعر بعدم الرضا ، وأصبح الوضع مثارا لأسئلة كثيرة تضمرها النفس ، ودعتها إلى ضرورة الاستفسار عنها وعن هذا الوضع الذى نحن فيه الأن ، ولكن وقفنا كثيرا عند حد سؤال هل مراجعة المطوف عن الحالة المتردية للمكان يعتبر نوعا من الجدل وهو ممنوع فى الحج ، أم حق واجب يمكن الاستفسار عنه فى أى وقت شئنا ؟! وخاصة أننا أمام وضع لا نجد له حلا يكظم الغيظ أو الشعور بالضيق . أقنعت نفسى أخيرا أنه لاضير من سؤال عن شيئ يبعث على الراحة إذا كان بلا ضجر ، أو الاستفسار عن مشكلة بلا منازعة ، وأيضا أننا لم نأت إلى هنا كى نعذب أنفسنا وخاصة أن نفقات الرحلة لم تكن بسيطة ، وأن كل مانطالب به مدفوع ثمنه ويزيد ، وفى نفس الوقت لن نطالب بأن يكون على مستوى من الفخامة لسنا فى حاجة إليها ، فنحن نعلم تماما أن المطلوب اليوم يدعو للتأمل لاللتمتع ، فلاأقل من أن يكون محل الإقامة مجهزا تجهيزا لائقا . المهم أننى ذهبت إلى المطوف بعد تردد ، وسألته عن المكيفات التى لاتعمل بكفاءة وعدم وجود مقابس كهربائية التى سنحتاج إليها فى شحن هواتفنا التى أوشكت على النفاد ، وعدم وجود مياه مبردة كافية . وعدنى الرجل أنه سيحاول جاهدا تلبية طلباتنا فى حدود المتاح ، أما المشروبات فإنه سوف يأتى بها فورا ، وبقية الأشياء سيحاول تدبيرها تباعا قدر الإمكان . وبالفعل قام باستحضار المزيد والمزيد من العصائر والمياه المعدنية والمشروبات الساخنة والباردة ، لم أتناول منها سوى مشروب مبرد يحتوى على أعشاب ذا نكهة طيبة المذاق والطعم ، شربت منه بكثرة ثم حاولت التأقلم مع الوضع أيا ماكان ، والتعامل مع الموقف بعد أن رضينا به عن طيب خاطر ، وانصرف كل منا لحاله حتى جاوز الوقت بنا الهزيع من الليل وأصبحنا فى وقت السحر كان علينا أن نسترح بعض الوقت وننام حتى يمكننا مواصلة اليوم بتؤدة وارتياح . الجميع من حولى راحوا فى ثبات عميق ، ولكنى لم استطع النوم بل رحت أفكر مستغرقا فى تأمل الكون حولى وسألت نفسى سؤالا أخر من أسئلة كثيرة سألتها لنفسى هنا وتواردت على خاطرى بكثافة ، ربما كان السبب هو وقوفنا هذا الموقف العظيم الذى كان بمثابة دعوة مفتوحة للقلب والعقل معا أن يفرزا هذا الكم من الأسئلة التأملية التى لم نسأل بها أنفسنا من قبل ، فالفرصة هنا سانحة وجلية ومتاحة للجميع أن يسأل كل منا نفسه مايشاء ويتأمل كل ماحوله بتؤدة ، ويخرج منها بدروس عظيمة ومستفادة .. لماذا نأتى إلى هنا ونقطع كل هذه المسافات طولا وعرضا ونتكبد كل هذا التعب والمشاق وعناء سفر وتكلفة ونفقات إلى أخره ، ونحن بإمكاننا أنه ندعوه ونحن فى بيوتنا ، أليس هو القائل فى كتابه العزيز " وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إليه مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ " أى إنه أقرب مايكون للعبد من الدم الذى فى أجسادنا ، أليس هو القائل أيضا " وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِى عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ " ، والحقيقة تقول أن الله قريب منا ولا توجد أية حجب ، ولاتفصلنا عنه أية أستار بل علاقته معنا مباشرة بوجوده داخلنا وحولنا .. وأينما كنا وفى كل وقت وحين ، بل موجود فى كل شيئ فى الوجود ، ولكن العيب فينا ومنا ، فنحن الذين بعدنا ، وبإرادتنا تأخذنا دوامة الحياة وتشغلنا عنه ، نحن الذين أقمنا هذه الحجب وتلك الحواجز بأنفسنا وفى نفوسنا بشواغلنا وهمومها وأهوائها التى طالما كانت تأخذنا فى أغراض من الرغبات الكثيفة التى لاأول لها ولا أخر ، وعقولنا تنصرف إلى أمور دنيا وقلوبنا تتعلق بكل ماهو مادى ، فيصير القرب بعدا ، حتى تأتى هذه الفرصة فنترك الدنيا والمال والولد ونتكبد المشاق والنفقات حتى يكون الخلاص من كل هذه الشواغل ونفرغ قلوبنا وعقولنا كى تستعيد ذكر خالقها ، ومنها تستيقظ كل الحواس الأخرى على حقيقة القرب إلى الله . ثم تذكرت منذ متى وأنا أنشد فرصة الإتيان إلى هنا من أجل أن أحقق هذا المعنى .. أن أتقرب إلى الله وألقى بكل همومى وإخفاقاتى هنا بين يديه ، كم من سنوات طوال مرت وأنا أحلم بهذه الفرصة وأنشد تأدية فريضة الحج كى يرتاح البال ، كم من سنوات كانت تتوالى ويبقى الحلم كما هو .. مجرد أمنية تحجبها عدم وجود القدرة المالية لتدبير النفقات فى ظل تزايد قيمتها سنة بعد أخرى ، وكنت حقيقة لاأملك تكلفتها عندما كانت بأقل من نصف القيمة التى توفرت لى هذا العام ، والحق إنما جاء التدبير من عند الله ، حيث جاء الفيض من صاحبه ودعانى ، فكان السبيل  للوصول إليه أيسر مما يتخيل العقل ، وها أنا ذا أعيش هذا الحلم الأن .. يوم عرفة .. هذا اليوم الأغر . 






عدت من شردتى وتركت التفكير فى نفسى ، ونظرت للرفاق حولى ، ووجدتهم قد استفاقوا من غفوتهم ، الجو الخانق لم يمكنهم من مواصلة نومهم من شدة الحر ، بل قاموا وجلسوا فى شكل حلقات يتكلمون .. يحكون .. يأكلون .. يشربون ، يصلون .. يلبون أو يدعون ، كل واحد هنا يفعل مايريد ، وله مايشاء ، لاقيد على أحد ، ولكن الكل يحكمهم الهدف ، والنية ، والمقصد ، والملبس ، والتوجه والإمتثال لأوامر الله ، واحترام روح الجماعة والانتساب لها ، الجميع يخاطبون الله بأى دعاء أو من أدعية مكتوبة أو بقراءة القرآن ، الكل هنا على يقين أنهم فى حضرة الله وفى ضيافته وفى رحابه ، ويعلمون أن النزول الإلهى لم يقتصر فى هذه الليلة على الثلث الأخير فقط ، بل سينزل لسماء الدنيا اليوم كله ليله ونهاره ، وأن هذا التفضل راقى المقام .. عالى المرتبة ، معلوم لهم ويعونه تماما وليس كليلة القدر التى يلتمسونها فى العشر الأواخر من رمضان ولايعرفون متى هى ؟! ، كما يدركون أيضا أنهم يقفون على أرض طاهرة وقف عليها سيدنا محمد صلوات الله وسلامه عليه ، وأنهم يسجدون حيث كان يسجد ، ويركعون حيث كان يركع ، ويرددون ما كان يردده من دعاء ، ويستوحون التلبيات بصوته الشجى ويستلهمون أصوات أصحابه الكرام رضوان الله عليهم ، وأنها مازالت تملأ الأصداء فى الفضاء الفسيح من حولهم تمجد آثارهم وخطاهم وتعلم البشرية الإنسانية والتحضر والرقى ، وستظل موجودة ترددها الملايين فى هذا اليوم المقدس لهذا الركن الأعظم من أركان الحج إلى أن يشاء الله ، فلاشيئ يفنى فى الطبيعة ، ولاشيئ هنا يضيع ، فالأرض هى الأرض ، والمناسك نفس المناسك ، والله واحد فى كل الأزمان وعلى مدار عمر الدنيا ، وهؤلاء الملايين من البشر الذين يتجمعون ويجتمعون هنا الأن يأتون مثل كل عام من كل صوب وحدب كالطوفان بلا هوية ، يأتون كما أتى الأجداد وأجداد الأجداد وحجوا وطافوا وسعوا وعاشوا ثم ماتوا وأنطوا وكما سيأتى أولادنا من بعدنا ويتخذون نفس خطانا بعد أن نحج ونطوف ونسعى ثم تطوينا الأيام والليالى ، لذلك نرى فيهم وفى أنفسنا الماضى والحاضر والمستقبل ، فمنذ زمن الأزمان والناس يأتون إلى هنا ، من زمن الذين جاءوا على ظهور الإبل ، امتدادا من أيام النبى الذى خرج من مكة مهاجرا وعاد إليها فاتحا ، عاشوا نفس اللحظات ونفس الزحام ، وبعدهم جاء زمن الآباء ، أيضا كانوا هنا يطوفون منذ سنوات فى هذا الزحام نفسه وعاشوا نفس اللحظات ، وسيمتد بقدر الله تعالى للأجيال القادمة أجيال أولادنا وأحفادنا وأولاد أحفادنا وأحفاد أحفادنا وبنفس الكيفية وبذات القدر جموع حاشدة وفى زحام خانق ، ثم سيطوى الجميع ويفنون ليبق هو . لذلك جاءت عظمة هذا المشهد ، كى ينسى الإنسان فيها نفسه ، ويفقد هويته وإحساسه بذاته ، ويتجرد شكلا وروحا وفكرا وإنسانية فى لحظة روحية شديدة التوهج حتى يغيب عن كل ماهو متعلق بالدنيا تماما ، لتظهر الحقيقة أنه لاأحد موجود حقا ويقينا سوى الله فهو الأول وهو الأخر ، وهو الذى يبدل الأيام ولايتبدل معها .. حى دائم لايموت ، هو ولا أحد سواه .







بقيت على هذا الحال من التأمل الذاتى مع النفس حتى حان وقت صلاة الفجر ، وسمعنا أذانه من مسجد نمرة الذى يدنو من خيمتنا ببضعة أمتار . قمنا وتوضأنا ثم أدينا صلاة الفجر فى جماعة خارج الخيمة ، ومع تنفس نهار خير يوم طلعت فيه الشمس ، ومع أولى نسمات خيوطه البيضاء الصافية ، خرجت مع بعض الرفاق ممن أحبوا الذهاب إلى جبل الرحمة ، وهو يبعد عنا حوالى مائة وخمسين مترا عن مكان إقامتنا ، وقع نظرى أول الطريق على الجموع الحاشدة فرادى وجماعات يتدفقون باتجاه جبل الرحمة ، كانوا ينفذون إليه من كل صوب ، أخذت أعدادهم الغفيرة فى الإزدياد ، ورويدا رويدا تلاصقوا وتشابكوا ، وعلت أصواتهم بالتلبية والدعاء ، يتطلعون مجيئ صلاة الظهر وهم على هذا الحال . حاولت أشق لنفسى طريقا بين الأجساد المتلاصقة واخترق الجماعات ، أحيانا اثبت خطواتى قليلا حتى أشعر بارياحية أكثر ثم أواصل المسير فى دأب وحزم ، وكلما قربنا من مقصدنا كانت المساحات تضيق بنا وبمن عليها ، وأصوات التلبية والتهليل والدعاء تعلو بالبكاء فى شجو وحرقة ، والنفوس الطواقة تشرئب فى تطلع وتضرع إلى مخاطبة الله . وعند بلوغ خطوات المسير مرادنا كانت الشمس قد أطلت على سماء الكون ، بنسمات مختلفة هنا تحس أن الهواء غير الهواء ، الهواء من حولى نديا نقيا .. بعيدا عن التلوث ، ولكنى لااستطيع أن أصفه بما يوازى شعورى ، كثيرا ماكانت تهب نسماته على وجهى فتلثمه بلمسات ساحرة ، فتعطينى انطباعا بقشعريرة غريبة تنبهنى لشيئ عظيم يتم لايمكن أدراكه ، هواء منعش فى درجة حرارة عالية ، لحظتها أدركت أن قدمى تخطو على أرض مختلفة عما كنت أمشى عليها فى كل طرق حياتى ، لم أشأ أن أنظر تحت قدمى لكى أتأكد أنها أرض غير الأرض ، ولا أستطيع أن أنظر إلى أعلى كى أتيقن أن السماء غير السماء ، ولكن إحساسى بالمشهد يؤكد أن الأرض رخامية الملمس ، والسماء قطعة من قطيفة شديدة الزرقة ، أما الشمس فكانت تبتسم لكل شيئ هنا ، فلا هى الأرض البيداء الجرداء ، ولاهى السماء القائظة ، ولاهى الشمس المكفهرة الخانقة ، فالأرض حولى أراها شاسعة بلاحوائط  .. رخامية النقاء .. شديدة اللمعان ، بيضاء شديدة البياض ، لاتستطيع أن تفرق أهذا هو لون الأرض أم تموجات البشر الغر ، إننى لم أر مثيلا لذلك من قبل ، مكان مغلق ومُحكم بمساحة محددة الأبعاد والحدود ، ومع ذلك تجد متسعا لمليارات من البشر ، إننى لم أر مكانا مغلقا بهذا البراح ، مكان يبعث على السلام والراحة والسكينة . أخذت حرارة الجو تشتد كلما كان الوقت يتقدم بنا ، وكأنه امتحان من الله لنا فى قدرتنا على تحمل المشقة ، تحملناها بحب وواصلنا المسير برغبة ، وعندما دنونا من جبل الرحمة أكثر رأينا حجاجا يقفون فوق صخوره الصلدة وقد فردوا مظلاتهم استعدادا لمواجهة الشمس لايهابون ساعات القيظ الوشيكة ، أما من كانوا على البساط الأرضى قاموا بنشر خيامهم على جانبى كل الطرق فى عرفة ، ومع استمرار تدفق السيارات وتدفق كافة الأجناس من كل صوب وحدب ، اكتمل للتكدس البشرى منتهاه ، ليتجمعوا هنا ويجتمعوا معا فى مكان واحد وفى وقت واحد ، لتنمحى كل الفروق ، وتسقط كل الحواجز والأقنعة ، ويصير الكل واحدا ، فى النية والمقصد والهدف والملبس . إن كافة المناسك الأخرى يمكن تقديم أو تأخير بعضها ، ويمكن لبعضها الأخر أن يستعاض عنه بفدية أو إنابة أوتوكيل ، إلا عرفة فإن له مكانا واحدا ملزما ووقتا محددا صارما ، إذا لم يلتزم الحاج به بطل حجه . 







دارت عيناى بارتياح مسحا لكل أرجاء المكان ، جلسنا على الأرض ندعو ، كنت لاأكف عن الابتهال والدعاء والتلبية ، حتى بدأت الشمس تشق طريقها إلى كبد السماء ، شعرنا بارتفاع نسبى فى درجات الحرارة ، وسرعان ماأشتدت ، قمنا من جلستنا وعاودنا الطريق إلى الخيمة ، وفى العودة وجدنا هذا الطريق وقد امتلأ على بكرة أبيه ، ومع ذلك مازال يتكدس بالمركبات والناس ، ورأيت الحاويات الكبيرة هنا بكثرة منها ماهو تابع للمؤسسات الخيرية فى الدولة ، وأخرى تابعة لأفراد ، وشركات ، ومنظمى الحج من قِبل الدولة ، وبعضها الأخر تابع للأسرة المالكة وخاصة خادم الحرمين الملك سلمان بن عبد العزيز ، تقف جميعها بجانبى كل الطرق فى عرفات ، وتحتل أماكن كثيرة ، معبأة بكل آلاء الله وخيراته من مأكولات جافة ووجبات ساخنة ومياة معدنية مبردة وعصائر مختلفة ، حيث يقوم القائمون عليها بتوزيعها على الحجاج المترجلين الذين كانوا يتدافعون أمامها بكثافة ، وأخرون يلقون بمعلبات العصائر وزجاجات المياه المثلجة على المارة دون معرفة مصدر توزيعها ، ومن الأشياء الرائعة هنا أن منظمى الحج بالمملكة وفرت أفرادا كثيرين يقومون برش الحجاج المشاة برذاذات المياه من أجهزة رش مياة مخصصة لذلك ، كما رأينا متطوعين كثيرين أيضا لم نتبين بعد هويتهم كانوا يقومون برش المارة من زجاجات مثقوبة حتى لايصاب الحجاج بالجفاف أو ضربة شمس ، وقد كان لنا نصيب وافر منها ونحن فى طريق عودتنا إلى محل إقامتنا ، الكل هنا يخدم الكل ، ملحمة من التعاون والبر بالأخرين ، وسألت نفسى متعجبا لماذا لانتحلى بهذه الروح المتفانية والمتعاونة والمسئولة فى خدمة بعضنا البعض فى حياتنا العادية ، من مؤكد أنه سيفرق كثيرا فى علاقاتنا الإنسانية والحياتية . عدنا إلى مقرنا ودخلنا خيمتنا ، وانفرد كل واحد منا بنفسه يتلو القرآن أو يقرأ من الأدعية المكتوبة فى الكتيبات التى كانت معنا أو يستدعى إلى ذهنه مايريد أن يفضى به إلى الله . ومن بين وقت وأخر كنت أخرج من الخيمة حيث أصبح فراغها الداخلى مايشبه الفرن ، فإذا بالهجير يلفح وجهى ، ولكن لطف الله علينا كان أقرب من الشعور بالرطوبة التى فاقت كل حد ، فسرعان مااستعادت البخاخات العملاقة عملها وقدمت لنا بسخاء رذاذات الماء التى لطفت إلى حد ما من حالة الجو الخانق الذى بلغ مابلغه من شدة القيظ . بدأ التجهيز ثم الإعلان عن وجود مائدة للإفطار خارج الخيمة ، تجمع الرفاق على ماوصل من مدد الطعام والشراب ، الكل فى حركة دءوبة للحصول على احتياجاتهم من صنوف تزجر بها المائدة ، ولكنى آثرت أن أمسك نفسى عن الطعام مخافة وتفاديا ألايعوزنى قضاء الحاجة إلى اللجوء لدورات المياه المهترئة التى كانت فى أسوأ حالتها ، ولايمكن وصفها بأقل من أنها مهزلة حقيقية لعدم الشعور بالراحة فى ارتيادها ، حيث لايتوافر بها عدد كافى للمراحيض بما يتناسب وعدد المتواجدين ، وحتى المتوفر منها بعضها غير مكتملة الصنابير ، وبعضها لايوجد فيها شطافات مياه كافية تفى لهذا الحشد احتياجاته ، والبعض الأخر يعانى من ندرة وجود الماء فيها من الأصل . وكان الأعجب هى تبريرات المطوف فى كلامه عن ماآلت إليه دورات المياه من سوء عندما توجهنا إليه وسألناه عن هذا التقصير ، حيث قال إن نزع صنابير المياة من المراحيض والمواضىء كان بهدف حمايتها من السرقة أو العبث بها ، وأن السلطات لم تمهله الوقت الكافى كى يتم تركيبها وإصلاحها ، بل سلمته المكان بالأمس فقط وهو وقت لايكفى لإعدادها الإعداد الجيد وتجهيزها بالتجهيز اللائق . كلام مردود عليه وغير مقنع بالمرة ، لأن يوما واحدا كان كافيا لتجهيزها وإعدادها إعدادا جيدا بتوفير عدد من الأفراد للقيام بهذا الأمر لو توفرت لديه النية الصادقة لذلك ، لأنها بالفعل وجدناها بحالة مزرية للغاية وتفتقر بصفة عامة الى أدنى شروط النظافة والتعقيم ، فوجود عامل واحد أمام أبوابها لايكفى للقيام بنزح الماء المتسرب من المراحيض وتطهرها برش الماء عليها ومسحها لتصبح قابلة للاستخدام البشرى فى أفضل حالتها . أسفت جدا لهذا الوضع المرير ، الذى زاد من حدته أن البعض فقد صوابه وراح يشكو مر الشكوى وهو ماكان مكروها فى الحج : الجدال والثرثرة دون الدعاء والعبادة ، لذلك كله أحجمت عن تناول أية أطعمة بل وأزددت إصرارا فى الإمساك التام عن تناولها حتى ولوكانت خفيفة كى لاألتجئ لأستخدامها مطلقا ، واستعضت بتناول المياه وبعض العصائر والمياه الغازية فقط وبكثرة عوضا عنها ، وعما كان يفقده الجسم من مياه لشدة الحرارة فشربت واكتفيت ، وأن كل مااستخدمته منها هى الأحواض الخارجية وكانت فقط للوضوء . حتى حان وقت الظهيرة ذهبت  إليها وتوضأت وأعددت نفسى لصلاة فريضتى الظهر والعصر قصرا جمع تقديم ، وبعد أن سمعنا آذان الظهر من مسجد نمرة خرجت من الخيمة واستشرفت القبلة وصليت خلف واحدة من الجماعات التى كانت تقيم الصلاة لنفسها وأديتهما معهم . بعدها دخلنا فى وقت مابعد الظهيرة إلى قبيل المغرب ، وكانت أشد الأوقات حرجا ، إذ الصبر عليها فقط يعتبر عبادة ، بل كانت هى أهم أوقات العبادة ، وقت الهاجرة ، الحرارة فيها لاتطاق ، سواء مكثت داخل الخيمة أو خارجها ، حيث أصبحت حارقة شديدة ، وكلما تجاوزت ساعات القيظ وقتها أشعر بالفرح الشديد لاجتيازى الوقت وأننى تحملت الحر الشديد الذى لم أعرفه من قبل ، وماكنا نحسه ، كان يحسه كل ساكنى الخيام والموجودون بكل بقعة فى عرفة ، تخلل ذلك تقديم وجبة الغذاء الفندفية الساخنة ، على المائدة الفاخرة التى إعدها طاقم من الطهاة المحترفين حيث أحضروها معهم توا وقدموها لنا ، ولكنى لم أضعف أمامها وواصلت الإمساك عن الطعام بإصرار بالغ وأعرضت عنه بشدة دون الشراب ، فتجنبت الذهاب لدورة المياة تماما . بعد ذلك توزع رفاق الحج وانفرد كل بنفسه رغم الجمع الحاشد ، ثم عدنا والتففنا حول أحد الشيوخ المرافقين لبعثة جهاز المخابرات العامة المصرية قُبالة خيمتنا مباشرة ، نردد وراءه الدعاء بمنتهى الخشوع والابتهال والسكينة ونؤمن عليه ، وفى لحظة معينة اندفعت الدموع من عينى حيث صفا قلبى وانتفى معه كل الوجود المادى ، لتشف القلوب بالدعاء الجميل من هذا الصوت الرخيم ، لهذا الجمع الطيب الكريم ، ومثلما كان يفعل السلف الصالح فعلت أنا كذلك ، حيث كانوا يدخرون حاجاتهم وأمنياتهم ودعواتهم ليوم عرفة ، فكم من الدعوات التى استجاب لها الرحمن ومنّ بها على عباده عشية عرفة . فأحسست بشفافية أكثر وصرت أكثر قربا من الله ، وأنزويت مع نفسى وواصلت الدعاء لوالدى بالرحمة والمغفرة ، ثم دعوت لأسرتى ، وكل ماكانت تفيض به الذاكرة من أمانات مستودعة فيه من الأصدقاء والأحباب ، وكان الفيض من الذاكرة غزيرا متدفقا ، فقد أصبحت فى حالة من الحضور التام ، كان كل مايمليه عقلى ينطقه لسانى مباشرة ، حيث رحت فى نوبة دعاء مسترسلا  " اللهم أنك رزقتنى حج بيتك الحرام فى عامى هذا ويسرتها لى فى سهولة وعافية منك ، وسعة رزق ، فلاتحرمنى من تلك المواقف الكريمة ، والمشاهد الشريفة ، ومن جميع حوائج الدنيا والأخرة ، فأتمم على حجتى بسلام وأمان وتشريفى بأداء مناسكك على أتم وجه ، كما شرفتنى بزيارة قبر نبيك المصطفى صلواتك عليه وآله ، فكن لى عونا وهاديا ونصيرا ، اللهم إنى أسألك فيـما تقضى وتقدر لى من الأمر دعاء لا يرد ولا يبدل فى أرضك المقدسة الشريفة .. عرفات الله ، وأن تكتبنى من حجاج بيتك الحرام ، المبرور حجهم ، المشكور سعيهم ، المغفور ذنوبهم ، المكفر عنهم سيئاتهم ، واجعل فيما تقضى وتقدر ، أن تطيل عمرى ، وتوسع على رزقى ، وتؤدى عنى أمانتى ودينى ، وبارك لى فى ذريتى ، واحفظ لى بيتى وأسرتى ، وأكرمنى فى أولادى ووفقهم لما تحبه وترضاه لهم ، وأن تجعل لى سبيلا فى إسعاد الناس وقضاء حوائجهم بتوفيقك وقدرك أن تمن على بعمل الخير وأجعلنى فيه سببا ، فيسره لى بقدرتك ورضاك ، آمين يارب العالمين ، ربنا عليك توكلنا وإليك المقصد والمصير ". مالت الشمس للمغيب واكتست السماء لونا شفقيا بعد زوال زرقتها ، ودارت محركات المركبات الكثيرة استعدادا وتأهبا للنفرة لبدء مرحلة أخرى من المناسك وهى مرحلة الإفاضة .





انتهى يوم عرفة ، وبدأ الاستعداد لهذه الحشود المهولة مغادرة هذا المكان المقدس وتركه ، وآن للجميع أن يتفرقوا ، الكل يتعجل ، الكل يتجمع فى مكان واحد ، وكأنها كتلة بشرية تتحرك فى دفع واحد ، لمكان واحد ، الأعلام والبيارق تميز كل مجموعة عن الأخرى وهى مرفوعة لناظريها ، وعلى كل مجموعة تنتسب لها أن تتبعها أينما ذهبت ، تفاديا أن يتوه أحد عن الركب ، وفى الطريق للحافلة شاهدت أسوأ مشهد يمكن لأحد أن يراه ، مخلفات كثيرة وبقايا أطعمة وزجاجات مياه وعصائر فارغة ، منظر يفوق أى وصف ، كنا ندوس عليها مجبرين ، لأننا لانملك أن نتفاداها ، وكان الخروج من عرفة إما سيرا على الأقدام أو الاتجاه إلى أماكن انتظار الحافلات ، وصلنا للحافلة بعد عناء شديد ، وعندما صعدنا إليها تنفسنا الصعداء ، ولكننا مكثنا فيها وقتا طويلا كى تتحرك أخذة طريقها إلى المزدلفة ، وحتى بعد تحركها ، كانت حركتها بطيئة للغاية فى مواجهة التكدس البشرى الذى كان عائقا للطريق ، الكل هنا يريد أن يمضى فى وقت واحد .. الكل هنا يعوق بعضه بعضا  ، الحافلات امتلأت على أخرها بالحجاج ، ولم يتركوا بقعة واحدة فيها بل شغلوا أبوابها وسطحها ، حتى الأبواب والنوافذ لم تسلم منهم ، غير الطوفان الأخر من الحجاج الذين يقطعون الطريق على أقدامهم ، هذا المد البشرى الضخم الذى تمثله هذه النفرة يتم فى هدوء تام ودون مشاكل وبلا مشاجرة وهو أمر يدعو للتأمل ، إذ كيف بهذه الأعداد الغفيرة التى تموج فى بعضها البعض ولايحدث حتى حادث عارض واحد ، أو حتى مشاجرة بين اثنين ، إلا إذا كان هؤلاء البشر قد صفت نفوسهم ، وشفت قلوبهم ، وجاشت مشاعرهم بعد قضاء هذا اليوم العظيم وفاضت محبة لبعضهم البعض وجعلتهم فى حالة من اللياقة النفسية التامة سائقين وركابا ومشاة ، وجعلتهم ممتنين لله سبحانه وتعالى أن من عليهم بغفرانه ورحماته ، وأن هذا الفيض الربانى فى حالة وجدانية رفعتهم إلى أقصى درجات التحمل والصبر والتعاون ، ومع تقديرهم للمسئولية أصبحوا متماسكين مترابطين فى لُحمة واحدة من التراحم ، فدانت لهم الأرض بما رحبت ، لا بغضاء ولاشحناء ، وحققوا معجزة السيولة المرورية دون حدوث مايعكر صفو هذا اليوم التاريخى الرائع .




وهكذا ولى الوقوف على عرفة ، ومضى ولكنه لم يغادر الذاكرة ، وأظن أنه لن يغادرها بل سيظل يلقى بظلاله ماثلا وشاهدا على يوم نقت فيه النفوس وتاقت  ، ومع تقدم الوقت الذى طال فى مسافة قصيرة ونحن فى طريق العودة من عرفة أو العودة إلى الدنيا ، كنت استعيد الوقفة ، ولأنها ليست كأى وقفة ، كانت اللحظات المستعادة قد يرى الإنسان مالم يكن قادرا على رؤيته ، وهكذا أعدت مشهد وقوفى قبل مغادرة الشمس للمغيب ، ورأيت كيف تعاطفت السماء التى اقبضت على الشمس وأحكمتها ببعض السحب الشفافة وراحت نسمة حلوة تأخذنى إلى حافة الأرض لاستشعر وجود الله فى سماء الدنيا ، فتكلمت معه بكل ماعندى حتى انطوت الدقائق المتبقيات من عشية عرفة ، وأنا فى رحابه استدر رحمته التى وسعت كل شيئ ، ياله من جمال وجلال .






أخذت الحافلة تعبر الكبارى والأنفاق الكثيرة بصعوبة بالغة ، وسط خضم من حجاج كانوا يسيرون بين الجبال الشاهقة مترامية الأبعاد ، السير يبدو بكثافة عالية فى المساحات الخالية على جوانبها ، ومنهم من كان يمكث تحت سفوحها أو فى أوسطها أو أعلاها ، وعلى جميع الطرقات بأعداد هائلة تفوق الحد ، مستوى رؤية النفرة شكلت كرنفالا رائعا .. كثافة الحجيج مع دوام الحركة وفى اتجاه واحد ، تناسق الألوان الأبيض والأسود والأصفر .. لبس الإحرام .. روعة الليل .. ورهبة الجبال والأنوار الشديدة المبهرة ، بانوراما تعطيك احساسا متدفقا من الجمال والروعة ، الأفق البعيد بدا وقد تلاشت أبعاده وكأن الدنيا كلها متجهة إلى المزدلفة . مازلت منشغلا مع نفسى بإعادة قراءة كل مشاهد اليوم كلما توقفت الحافلة ونحن فى طريقنا إليها ، وأنتبه مع كل فرجة بسيطة تفضى لبعض المساحات اليسيرة التى تتيح للحافلة السير فيها ، حيث كانت تشق جموع من الحجيج المترجلة والحافلات المتكدسة بصعوبة بالغة ولمسافة قليلة من قطع الطريق ، كنت أستعيدها بالكامل وأصورها لنفسى وأنا لازلت أعيش أخر لحظاتها ، مستخلصا منها الدروس والعبر لتبق مبادئ هذا اليوم الرفيع وسيرته العطرة نبراثا لحياتى تنير لى الطريق ، وأى عطاء بعد عطاء يوم عرفة يستحق أن يذكر بكل طرقه المؤدية منه وإليه إلى كل بقاع العالم لنشر رسالة الإسلام المفترى عليه ، لتصحيح مفهومه وتحديد مساره الحقيقى من خلال هذه الوقفة الكونية المتصلة بالسماء لتجسد أسمى معانى التسامح والتلاحم والتعاطف والخير والمحبة والوئام والسلام للناس .. كافة الناس .
                       وإلى اللقاء فى الجزء الخامس والأخير '

القاهرة فى 1 سبتمبر 2016                        
مع خالص تحياتى : عصام