كلاسكيات مصرية

الجمعة، 8 سبتمبر 2017

خطوات على طريق الله ( الجزء الخامس )

بدأنا مرحلة جديدة من مناسك الحج فى تواصل مستمر ، المشهد العام الأن عبارة عن طوفان من البشر يسيرون صوب اتجاه واحد ، يكتنفهم ليل بدأ يسدل خيوطه على الكون ، هكذا أصبح الحال بعد انتهاء يوم عرفة ، حيث مضى الركن الأعظم من الحج ، ولكن ترك فى النفس فيوضات كثيرة ، حملتها قلوبنا وجوانحنا لتمضى مع هذا الركب النافر إلى المزدلفة أرض الله الطيبة ، حان التفرق بعد جمع .. والتدفق بعد مكوث ، والحنين يسبق مغادرة المكان ، لأول مرة أشعر بالحنين لشيئ مازلت أعيشه وأحياه ، ولكن لاحيلة لأحد فى الدخول والخروج ، فكل شيئ هنا محسوب بقدر .. حدود معينة وميقات محدد ، ولأن كل شيئ هنا بأوامر إلهية ، جاء الحرص بالتعجل أن يحدث هذا التكدس المفرط ، فباتت الحركة بطيئة للغاية ، حيث طال انتظارنا أكثر من ساعة ونصف الساعة بعد ركوبنا الحافلة حتى بدأت فى التحرك وسط هذا الخضم من المركبات الكثيرة والطوفان الكثيف من البشر الساعين بمختلف الجنسيات والهويات سيرا على أقدامهم ، فكان لأهمية الوقت وضرورة المغادرة بعد غروب الشمس مباشرة له دوره وتأثيره فى أن الكل يريد أن يمضى فى التو واللحظة حتى يبدأون النفرة ويواصلون مناسكهم وأداء بقية الشعائر بعد منتصف الليل بارتياح . وهو مالم يتحقق بالسهولة التى كان يتصورها البعض منا إذ أنه لم يتمكن الكل من الخروج فى وقت واحد ، فها نحن لم نتجاوز بعد أرض عرفة والليل قد أدركنا وخيم بتسلله الناعم وهدوءه الجميل إلى الكون وبدأ يتسلل إلى أرجاء المكان كله ، إننا لم نستطع بعد اجتياز كل الطرق ودروب الجبال وشعابها المؤدية إلى المزدلفة كما كنا نأمل ونريد ، كأن أجساد البشر تحولت لجسر ممتد من عرفة وحتى مشارفها ، فهذا الطوفان البشرى المنتشر أمامنا والمتدفق صوبها أعطانا هذا الإحساس ، بأنه لن ينتهى لدرجة أننا كدنا ألا نصدق أنفسنا بأننا سنفارق أرض عرفة والمفروض حسب حدود المكان أنها وشيكة والمسافة صغيرة ، ولكن الوقت الزمنى كان يمرق ويتجاوز والحال على ماهو عليه.. لاتغيير .. الكل نافر ، بدءا ممن سبقونا إليها واستقروا فيها ، وانتهاء بمن على أعتاب عرفة منتظرين دورهم فى مغادرتها . لذلك أخذ مرورنا وقتا طويلا فى اجتياز الطرق ، وقطع المسافات وعبور الطريق الذى يمر عبر أنفاق كثيرة فى بطن الجبال الشامخة والشاهدة على روعة وجمال المشهد ، حتى وصلنا أخيرا وبعد عناء إلى المزدلفة ، المشهد بحق كان مهيبا ، كانت الساعة وقتها تشير مايقرب من الحادية عشرة مساء . الخلاء فسيح والليل خيم تماما على كل أرجاء المكان ، الحافلات التى سبقت احتلت جانبى الطريق ، الزحام بدأ يشتد مع مرور الوقت وتقدمه ، الحجاج يفترشون الأرض ، يمكثون فوق الأرصفة وتحتها ، وداخل الحافلات وبينها ، الكل رغم التعب والهلاك متيقظون يتهافتون باندفاع على كل دورات المياة الكثيرة والمنتشرة فى كل أرجاء المزدلفة حتى امتلأت على آخرها ، كنا منهم حيث توضأنا ، ثم بدأنا نبحث عن مكان نستقر فيه ، حتى وجدنا ربوة منحدرة فمكثنا على حافتها ، وافترشنا جزءا منها للإستراحة بعض الوقت والصلاة وجمع حصوات الرجم ، كما فعل النبى فى المشعر الحرام .






كنا أمام خيارين ، إما أن نذهب لمنى ونقيم فيها يوم النحر وأيام التشريق أو نعود إلى مكة ونطوف طواف الإفاضة ونتحلل من ملابس الإحرام ، على أن نعود بعد الظهر لنبدأ برمية العقبة الكبرى . أخذنا بالخيار الثانى حيث تم الإجماع عليه ، وعليه عدنا من المزدلفة إلى مكة بعد أن قمنا بجمع الجمرات وأدينا صلاة المغرب والعشاء قصرا جمع تأخير كنت فيها إماما لمن كانوا معى من الصحب الكرام ، ومكثنا فيها حتى جاوزنا الميقات بقضاء جزء من ليلة النفرة من عرفة وجزء من صبيحة يوم العاشر من ذى الحجة .. يوم عيد الأضحى ، واتجهنا صوب الكعبة المشرفة قاصدين إياها جريا لإدراك طواف الإفاضة والسعى قبل الزحام ، ولنتمكن من حلق الشعر والتحلل . عدنا بالفعل إلى مكة ووصلنا إلى الكعبة المشرفة حوالى الساعة الثانية صباح يوم العيد ، أى بعد حوالى ساعة من مغادرة المزدلفة ، بدا البيت العتيق فى أحلى حلة ، طاقة من نور فضفاض ، وكيف لا ، وهو العتيق فى الأرض .. المعمور فى السماء ، والموصول بينهما منذ أن خلق الله الأرض ومن عليها ، وعظم شأنه بطواف الناس فى الأرض ، ورفع قَدره بطواف الملائكة فى السماء وعلى الدوام وبلا انقطاع ، ورغم التعب دخلناه بقلوب عامرة خالصة نظيفة من الذنوب والآثام مرددين اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما ومهابة راجيين الوصول متمنين رضاه ، فهو قبلة لمن منحه الله رخصة الوصول إليه ، ومابين الرجاء والقبول ونيل المأمول منه بدأنا بسم الله طواف الإفاضة ونحن فى رحابه ، ووجدت نفسى داخلا فى غمار هذا الجو العابق بسحر المكان وعظمة المآل ، وطفنا حتى أتممنا الأشواط السبعة قبل تدافع الخلق ، ثم بدأنا فى السعى بين الصفا والمروة ، وفى أثنائها بدأ الحجاج يدركون المكان حتى اكتظ المسعى بالحجيج قبل إتمامنا للسعى ، وبشق الأنفس أتممناه وسط هذا التوافد الذى بدأنا نشعر بكثافته يزيد من قوة التدفق وشدة التدافع المهول حتى امتلأت ساحة الكعبة وماتلاها من أدوار . كان وقت صلاة الفجر وشيكا فانتظرناه وأديناها أمام أستار الكعبة مباشرة ، ونسينا التعب ونسينا كل شيئ فرحين بما من الله علينا به من إتمام أهم ركن فى الحج بسلام وسلاسة ويسر ، وذهبنا لحلق الشعربشفرة الموس لنتحلل ، تذكرت كثرة التحذيرات قبل السفر أن أتنبه للأمواس المستخدمة بألا تكون مستعملة ، وزاد قلقى وحيرتى بعد أن مررنا على كل محلات الحلاقة أسفل وقف الملك عبد العزيز ووجدنا أن من يديرها باكستانيون ، واستوقفنى شكلهم الذى لايبعث عن أى راحة للنفس رغم الغلاء الفاحش فى سعر الحلاقة حيث بلغ ستين ريالا وهى لاتتجاوز فى الأيام العادية العشرة الريالات ، إنهم يستغلون الموقف أسوأ استغلال فى موقف عظيم مثل هذا الموقف الذى نحن فيه الأن ، وكان أقل مافيه مراعاة هيبته ، وأن يراعوا ضمائرهم احتراما لهذه الشعيرة الغالية على كل نفس تواقة لها ، فالمشهد فى عمومه أثار حفيظتى إلا أن المستشار محمد عبد العظيم عقد النية والعزم واتخذ قرار الحلاقة وتقدم هو أولا قبل أن أثبط عزيمته وأشككه فى أمرها ، مما شجعنى أن أدخل وأحلق مثله بلا تردد ، واطمأننت حيث وجدت أن الموس الذى يتم استعماله يلقى فى سلة المهملات أمامى ولايستخدم إلا لمرة واحدة ولشخص واحد فقط ، حلقنا رأسينا تماما وصعدنا إلى غرفتنا وتحللنا من ملابس الإحرام . وكان من المفترض بحكم أننا كنا من الحجاج المتمتعين علينا أن نقوم نحر الأضحية وهو المسمى فى القرآن بالهدى ، ولكن هذا الأمر أصبح ميسرا وسهلا حيث يدفع صك لها فى أحد فروع بنك الراجحى وكنا قد دفعناها مسبقا ونحن فى المدينة المنورة ، وهذا البنك هو من يتولى شراء الأضحية وذبحها فى منى أو مكة بطريقة منظمة ، وإعداد لحومها وإرسالها للدول الفقيرة .











بمجرد صعودنا للغرفة تحللنا من ملابس الإحرام ، وأخذنا حماما باردا شعرنا معه براحة عميقة ، ثم قمنا بحلق ذقوننا وتطيبنا ، بعدها مباشرة ذهبنا للمطعم لتناول وجبة الإفطار التى تزامنت مع وقت صلاة العيد ، فطرنا ونحن نستمع لخطبة العيد ، ثم صعدنا لغرفتنا مرة أخرى حتى نخلد للنوم والراحة بعض الوقت ، وماأجملها راحة بعد تعب ، ونعيم بعد شقاء . نمنا بعمق ، وصحونا على بشاعة خبر وقوع حادثة تدافع الحجاج أثناء توجههم إلى منشأة الجمرات لرمى جمرة العقبة ، بسبب ارتفاع الكثافة والتداخل المفاجىء وهم متجهون إلى الجسر عبر شارع رقم (٢٠٤ ) عند تقاطعه مع الشارع رقم (٢٢٣ ) بمنى ، مما نتج عنه سقوط أعداد كبيرة من القتلى والمصابين من جراء هذا التزاحم الشديد بقوة التدافع الذى كان كالسيل العرم ، ولم أكن أعلم أن هذا الحادث وقع فى مكان إقامتنا فى منى إلا بعد أن أخبرنا به مشرفا الرحلة عمرو عبد الشافى وطه عبد الحكم عندما تقابلنا معهما بعد ذلك ونحن فى انتظار الحافلة ، ولكننا تابعناه كحدث جلل من خلال شاشة التلفاز الموجودة بغرفتنا ، ثم قمت وثبا من فوق السرير على فكرة مهاتفة أسرتى فى القاهرة قبل أن تتقاذفهم الأفكار المروعة ، لأنه من المؤكد قد علموا بالحادث وسينتابهم حالة من الفزع والخوف بأنه قد حدث لى أى مكروه ، وعلى الفور اتصلت بهم حيث وجدتهم بالفعل فى حالة من التوتر والقلق الشديدين ، فاطمأننتهم بأننى بخير ، وأننى لم أبت فى المشعر الحرام ولم أذهب إلى منى ، بل عدت لمكة ونمت فى الفندق . وبما أن الشيئ بالشيئ يُذكر فالكلام عن وضعية منى ورجم الشيطان تحمل فى طياتها غرابة شديدة وعلامات استفهام كبيرة ، فكثيرا ماتعرض حجاج بيت الله للموت أثناء رمى الجمرات على مدى عقود متتالية ، فالإقامة فيها أثناء الحج جبرية وبهذا العدد الهائل فى مكان واحد لمدة ثلاثة أيام بلا مرافق كافية وفى ظروف لايتوفر فيها الحد الأدنى من النظافة ، يعتبر أمرا صعبا ، ولكن اليوم ليس كالبارحة ، لأن الحج فى الأعوام الأخيرة شهد تقدما كبيرا وملموسا فى عمل الإنشاءات والتوسعات الجديدة وخاصة ماتم فى الحرمين الشريفين المكى والنبوى من توسعات وتطويع المكان لاستيعاب الأعداد الهائلة من البشر ، ولايقل مشروع مشعر " منى " عنهما إن لم يكن أهمهما على الإطلاق ، لأن التطوير هنا حيوى ومطلوب فى حدود مكان أفقه ضيق للغاية بالقياس مع عدد مايتواجد فيه ودوره المهم فى نوعية وأداء الشعائر ، إذ جعل المكان أوسع نسبيا وأرحب بكثير من ذى قبل ، وحقق أهدافا أساسية كانت مطلوبة وملحة ، وقد انبهرت من روعة التطوير عندما شاهدت المكان بعين رأسى مقارنة بالصور القديمة التى كنا نراها فى الصحف أو فى المجلات أو الكتب التى تصور لنا مناسك الحج ، أهمها انسيابية حركة الحجاج وخفض كثافتهم عند مداخل الجسر وذلك بتعدد المداخل وتباعدها مما يسهل كثيرا فى تفتيت الكتل البشرية عند المداخل وجعل وصول الحجاج إلى الجمرات من الجهة التى قدموا منها سهلا وميسرا للغاية أثناء تأديتهم لنسك رمى جمرة العقبة يوم العيد ورمى الجمار أيام التشريق ، لكن وبكل أسف رغم كل هذا التطوير الذى يعد بالفعل معجزة معمارية فى مسعى " منى " والمفروض أنه وفر كل أسباب السلامة والظروف الآمنة والمريحة بحيث يضمن ألا تقع حادثة واحدة ، إلا أنه لازالت نفس نوعية الحوادث تتكرر ، ولازالت الأمور فى هذا المنسك خاصة تشكل علامات استفهام كبيرة ، إذ يعتبرأضعف نقاط الحج حتى الأن بحسابات وإحصاءات ماوقع فيها من حوادث ومصائب ، ولانعرف لهذه المشكلة سببا ، هل تتعلق بوضعية المكان نفسه أم بالبشر وعقولها ، أم يحكمها منطق القوة ، لقد رأيت بعين رأسى جماعات من الحجيج وعلى رأسهم الأفارقة يتحركون بعواطف مشبوبة لاتلقى بالا لآداب الحج ، جماعات قوية الأبدان لاتراعى إن كان من بين إخوانهم من الحجاج مرضى أو كبار السن أو ضعفاء ، حتى إذا مانزحوا اكتسحوا كل مايصادفهم وهم يمضون فى طريقهم سواء كانوا أفرادا أو جماعات صغيرة لولا لطف الله ورحمته ، ولذلك كانت بعض النساء يأثرن السلامة ويبقين في الخيام ويوكلن الرجال فى لجة الرمى دون أن يشاركن فيه ، وهو ما فعلته السيدات اللاتى كن معنا . نضف إلى مآثر رمى الجمرات أيضا عدم الدراية لحكمة هذا النسك ، هذا الأمر الذى جعل الكثير من الحجاج يظنون أنهم يتعاملون مع الشيطان وجها لوجه ، فمن الطرائف المتكررة التى تتحقق فيها الجهالة أننا نرى بعض الحجاج وهم متجهون نحو مكان رمى الجمرات يعتقدون أن رجمهم للشيطان هو رجم لشيطان حقيقى ، فيقذفونه بالشباشب والنعال وبأفظع الشتائم ، ومن العجب أيضا أن ترى هذا الزحام على رجم الشيطان ، والشيطان ليس موجودا أمامنا ، وليس هناك ، بل أنه كامن فى نفوسنا ، وأن الأمر لايستأهل منا أن نقذف الجمار بحرقة أو بعنف ، لأن هذه الأحجاز ليست إلا رمزا ، وإن الذى رأيناه ولمسناه فى رحلة الحج أننا نتعامل مع رموز لثوابت عظمية أرقى بكثير من منطق الأشياء التى يدركها العقل ، فالحج يتعلق بارتقاء النفس وتهذيبها ويضعها أمام حقيقة وجود الله ووحدانيته ، ووقتئذ يبرز جوهر الدين من آداء هذه الفريضة ، ويؤكد على أن الدين ليس ابتداعا أو طقوسا تُؤدى ، بل هو ارتقاء بفكر الإنسان لاستصفاء الدين فى النفس يبدأ من الأداء الحركى والجسدى فى تنفيذ التكاليف الإلهية في آداء المناسك كطقوس ، إلى الإرتقاء به لمرتبة الشفافية فى حب الله ، فتكون العبادة فى فهمها أعمق ، وحبا لاطقوسا ، إنها نعمة العقل إذا أحكمناه وتدبرنا نسك الرجم ، سنجد أن الحكمة منها واضحة للنفس جلية للروح ولاتحتاج إلى الوقوع فى خطأ بأن الشيطان أمامنا حتى نقوم برجمه ، بل هو بداخلنا ، وقد نرجم أنفسنا ، فكلنا لبعض شيطان أو كلنا هذا الشيطان .




لقد كان لهذا الحادث المؤسف وتداعياته أثره البالغ فى نفوسنا وفى تحركاتنا التى أصبحت وشيكة صوب هذا المكان . المهم قمنا واستعدينا لصلاة الظهر فى المسجد الحرام وتناولنا وجبة الغذاء فى مطعم الفندق الوثير غير المدرج فى برنامج الرحلة ، والتى اجتهدت شركة السياحة فى إدراجه ، خدمة منها لنا فى سبيل توفير أفضل وأقصى درجات الراحة - وهو ماكان واضحا للجميع ولايستطيع أحد أنه ينكره - فكان له أثره الطيب فى نفوسنا لهذه اللفتة الرائعة . فقد لفت نظرى فخامة المطعم فى كل شيئ ، فى ديكوراته وارتفاع مستوى طهاته ، حتى رواده من نوعية بشر أخرى ، فكانت الفخامة والشياكة فيما قُدم لنا من كل مالذ وطاب من مأكولات وأطعمة ، لحوم الخراف المشوية على سرافيس تحت مناضد العرض ، والشيفات متراصون فى شياكة يتمنون أن نتقدم لهم ونختار ماتشتهيه النفس ، والأسماك بانواعها المختلفة موضوعة فى الأوعية الاستانلس الفاخرة بدءا من الجمبرى المشوى والمقلى ، إلى المطهاة مع الكريمة ، والاستاكوزا الحمراء وأنواع كثيرة أعرف بعضها والباقى لاأعرفه ، وأيضا الخضار بصنوفه المختلفة ، والسلطات بكل أنواعها ، كل شيئ يمكن أن يخطر على بال أى أحد كان موجودا . تناولنا طعام الغذاء ثم توجهنا بعدها لساحة الحرم منتظرين الحافلة التى ستقلنا إلى منى لرمى جمرة العقبة الكبرى ، ووقت الرمى المحدد هو من فجر يوم عيد الأضحى إلى فجر اليوم التالى ، ونحن الأن حوالى الساعة الثانية والنصف مساء .







جاءت الحافلة بعد انتظار طاله بعض الوقت ، بدا السائق محمد مكفهر الوجه يعض على نواجذه حيث بلغ الضيق معه أشده واستحكم ، فأراد أن يبادرنا قبل أن نعتب عليه لوم التأخير ، وأخبرنا أن جميع طرق ومعابر وأنفاق مكة بالكامل شبه مغلقة وتعانى زحاما محكما واضطرابا مروريا شديدا ، وأن كل الطرق المؤدية من وإلى منى تم غلقها تماما ومُنع منها سير السيارات والحافلات بهدف تسهيل مرور سيارات الإسعاف التى مازالت تنقل القتلى والمصابين للمستشفيات القريبة من المكان منذ الساعة العاشرة صباحا . ركبنا الحافلة وتحركت بنا ، خطوات السير بطيئة للغاية ، مهارة السائق ومعرفته الجيدة للطرق والأنفاق جعلته يشق طريقه بين الحافلات المتكدسة ومكنته من الإفلات منها ، والدخول فى طرق مكة الصعبة التى لايعرفها كثيرون غيره كى يصل بنا فى الوقت المناسب ، إلا أن هذا لم يشفع له حتى الأن ولم نستطع بلوغ منطقة منى رغم كل هذه المحاولات المضنية ، فلازلنا نلف وندور وكأننا ندور فى حلقات مفرغة ، الطريق الذى نبدأه وننهيه نعود إليه مرة أخرى . وبعد مضى الكثير من الوقت لم يفلح السائق إلا فى الوصول إلى المنطقة القريبة من النفق المؤدى لمنى ، وكان علينا أن نتحمل مشقة السير لمسافات طويلة قبل النفق وبعده . بدأنا معاناة السير فى اتجاه منى ، فالطريق جبلى والسير فيه له مكابدته الكبيرة وإجهادات مضاعفة لأن اتجاهه بارتفاع لأعلى ، وكنا نشعر بذلك كلما تقدمت خطواتنا ، بعض السيدات تحملن فى جلد ، ولكن الأخريات لم يستطعن التحمل فتوقفن عن المسير عند النفق ، لم يكن أمامهن إلا أن يركبن العجلات المنشرة هناك لصعود الطريق ، اليمانيون هم من يتولون هذا الأمر نظير أجر باهظ للغاية ، مائتا ريال لمجرد المرور من النفق فقط  لمسافة ليست بعيدة ، استغلال مابعده استغلال ، وكأن وضعية خدمات الحج واحدة ، استغلال فاحش .. وانتهاز فرص ، وعدم وجود ضمائر حية تناسب وضع الأزمة الذى صنعها وجود هذا الحدث الجلل . وبعد مقايضات ومفاصلات كل السيدات أبين أن يركبنها وآثرن مشقة الطريق عن عدم الإنصياع للإستغلال ، وسرن معنا وتحملن مشقة الطريق بعد أن رفضن المغالاة . الجسر طويل أخره النفق ، أبواق سيارات الإسعاف تتعالى تريد أن يفسح لها الحجاج النازحون من مكة الطريق ، وناشدتهم أن يتعاونوا معها ويتنحوا إلى جانبى النفق حتى لايعترضوا مرورها ، فكانت تمرق مهرولة فى سرعة لكى تنقذ المصابين . تجاوزنا النفق ودخلنا على الكوبرى المؤدى إلى الخيام وكان قبل غروب الشمس ، وقع نظرى على المشهد المروع فصدمت ، لم يكن بمقدور أى إنسان أن يرى هذا المشهد المأساوى ولايخفق قلبه من روعه ، جثث فى الأكفان ، واضطراب فى الوجدان ، وتشدد من السلطات ، ووجوم من الحجيج الموجودين فى منى ، الحزن طال كل أجواء المكان ، وخاصة محيط شارع ٢٠٤  حيث يقع مكان إقامتنا ، المشهد أوغر صدرى بدفعات من الضيق الشديد  وأوشك أن يحطمه إثر فراغ ضيق النفس ، وجحظت عيناى من بشاعة المنظر ورهبة الموت التى أحاطت بالمكان كله ، وعدت لتوى أفكر وأتعجب كيف جاء الموت كتلة واحدة ، واجه فيه من كتبت له الشهادة على أرض الله الطيبة بشاعة ماحدث ، وتخيلتهم وهم يعبرون الرعب مستأنسين متلاصقين لبعضهم البعض جبرا ، غير آبين ضيق المساحات فى أفق رحبة واسعة ، حاصرهم فيها بعد المكان ، وضيق المجرى المحدد الذين اندفعوا فيه دفعا مميتا ، وكأن الموت أبى ألا يشتتهم من محاولات الفرار اليائسة فى لحظاتهم الأخيرة ، إذ كان الفرار من الموت هو نفسه الموت ، ياالله ، أخذت انظر للعالم الذى يعج بالشخوص الكثيرة التى تحدت الموت حولى ولايريدون ألا يبرحوا المكان البته ، وقلت فى نفسى وأنا مخنوق وقلبى يحترق : يالها من دنيا ، لاأحد يعرف فيها مصيره ولاتدرى نفس ماذا تكسب غدا ولا بأى أرض تموت ، حتى كدت أشتم رائحة الدخان تخرج من صدرى مندفعة من هول صدمة المشهد الذى ماجت معه كل الترتيبات وأوشكنا أن ندخل فى صراع الدقائق والخروج من الميقات بعد أن سرنا على كل الجسور والمعابر والمنحدرات أكثر من مرة دون جدوى . السلطات كانت تمنعنا من الدخول فى كل مرة نصل فيها لمسعى الجمرات ، ولايفصلنا عن دخوله إلا أمتار قليلة ، فنعود أدراجنا ونبدأ الطريق من جديد من حيث انتهينا منه بعد بلوغه بشق الأنفس ، حتى تجاوزت خطوات مسيرنا أكثر من خمسة عشر كيلو مترا استنزفت وقتا كبيرا وجهدا خارقا ، وجعلتنا ندخل فى حسابات أخرى بعد أن أوشك الوقت أن يطبق علينا ، وخشينا من عدم التمكن من الوصول ونحن فى رمق الميقات الأخير لرمية العقبة . رفعنا أكف الضراعة لله داعين بألا يخذلنا أبدا وألا يحرمنا منها . ثم جاء المدد وانفتحت الأبواب الموصدة ، وصرحت لنا السلطات بدخول المسعى ، وأخيرا دخلناه قبل تجاوز الوقت بقليل ، حيث كانت الساعة تشير إلى الحادية عشرة والنصف وليس أمامنا إلا نصف الساعة ، اندفعنا في اتجاه جمرة العقبة حتى وصلنا إليها ، وحمدنا الله أنه ستر ويسر لنا الوصول فى أخر موعد قبل الدخول فى دوامة البحث عن الفتاوى الكثيرة لو قصرنا لاقدر الله ، ولكن على أى حال لو كان حدث سنكون غير متعمدين . المهم وصلنا بحمد الله بعد جهد مضنى وشاق لجسر الرمى ، ولأن الجسر ضخم ويمر بالعقبات الثلاث ، ومقصدنا العقبة الكبرى وهى الأكثر بعدا ، تسارعت خطاوينا حتى لانتجاوز الوقت ، وكان لنا أن نرجم من أى مستوى من المستويات الرأسية الخمسة ، من تحت الجسر إلى أعلى السطح ، فالأعمدة الثلاث تخترقها جميعا . وصلنا إلى أقرب نقطة للرمى أسفل الجسر ، ولم يكن وقتها موجودا فيه غيرنا إلا من قليل . كنت أحمل معى كيسا صغيرا جمعت فيه حصاة كثيرة من أرض المزدلفة تفوق ماسوف أقوم برميه ، والمفروض أننى سأحتاج إلى تسع وأربعين حصاة  ، سأستخدم فى هذه الليلة سبعا فقط ، واليوم الثانى واحد وعشرين لرجم العقبات الثلاث ، ومثلها فى اليوم التالى ، وعدد أخر زيادة للاحتياط ، جهزته ووضعته فى يدى ، كنا نلبى ونحن صاعدون للرمية ، قطعنا التلبية عند وصولنا لجمرة العقبة الكبرى ، وقفنا أمام جمرة العقبة ، وجعلنا منى عن يميننا ، والكعبة عن يسارنا ، ثم بدأنا برمى الشاخص من فوق الجسر بسبع حصوات متعاقبات ، كنا نرفع أيدنا مع كل حصوة ، ونكبر قائلين "بسم الله ، والله أكبر، رغما للشيطان وحزبه وإرضاء للرحمن" ، حتى انتهينا من رميها ، وعدنا من حيث أتينا ولكن بقيت صورة الشهداء تتصدر أصداءنا .. ماثلة فى ذهننا .. عالقة فى قلوبنا لأناس نالوا شرف الشهادة وأراد الله عز وجل أن يدخلهم فى جواره ويدخلهم جنته ، بيض ، خالصين دون شوائب الدنيا ، عليهم رحمة الله .












بعد أن فرغنا من تأدية جمرة العقبة الكبرى عدنا من حيث أتينا ، ولكننا لم نتمكن من الوصول إلى خيمتنا الكائنة فى شارع (٢٠٤ ) وهو نفس المكان الذى وقع فيه الحادث ، السلطات أحكمت الغلق تماما وحاصرت المنطقة بالكامل ومنعت الدخول فيها ، ولم نتمكن من الخروج إلا من المستوى الثانى للجسر فى اتجاه مكة المكرمة ومكثنا مابين المنحدرين غرب الجمرات وقبيل محطة الحافلات القريب من شارع صدقى وطريق المشاة ، وافترشنا الأرض فى الساحة الواسعة أمام ملتقى شوارع سوق العرب و الجوهرة ، والملك فيصل باتجاه مكة المكرمة ، انتظارا لدخولنا فى ميقات أول أيام التشريق حتى نستطيع رمى الجمرات الثلاث متعاقبة الصغرى ثم الوسطى ثم الكبرى على الترتيب . كان انتظارا صعبا ، حيث باغتننا الشرطة أكثر من مرة تريد إجلاءنا من هذه الساحة لإخلائها ومنع جلوسنا فيها ، ولم يكن أمامنا خيار أخر ، فالخيمة المخصصة لنا عرفنا تفصيليا من مشرفى الرحلة أنها تهدمت بفعل التدافع ومات ماكان فيها وقت الحادث ، أربعة من الأولاد اليمنيين المعينين من قِبل المطوف ، كانوا فى انتظارنا ليقوموا على خدمتنا أثناء إقامتنا فى منى ، وأن الخيمة الأن موضع لإواء جثث القتلى لحين نقلها ودفنها . خيم الحزن علينا عند سماعنا لهذا الخبر المؤسف ، ورضينا بالجلوس على الأرض عن طيب خاطر ، فالكل يعلم جيدا أن الحج مشقة ، وهذا ابتلاء من الله عز وجل علينا أن نرضى به ونتقبله برضا نفس ، ومع ذلك كان مشرفا شركة السياحة مابين الحين والحين يبديان أسفهما الشديد على وضعيتنا وافتراشنا لأرضية الساحة الساخنة ، فدرجات الحرارة ونسبة الرطوبة عالية جدا رغم أننا فى أولى نسمات اليوم الجديد ، إلا أننا لم نشعر بنسمة هواء واحدة عابرة ، حاولا قدر استطاعتهما فى ضوء هذه المتغيرات أنهما يأتيان لنا بالماء والمشروبات المثلجة . إلا أن بعض السيدات اعترضن ورفعن أصواتهن موجهين لومهن للشركة هذا التقصير بأنهن دفعن مبالغ كبيرة ولايناسبهن الجلوس فى الطرقات ، ولايصح تعرضهن لإهانة الشرطة بطردهن من المكان الذى يجلسن فيه ، وأنه لزاما على الشركة بخبرتها أن تتعامل مع كافة العوارض ويتعين عليها أن يكون لديها البدائل ، توجهنا إليهن لنحذرهن أنه لاجدال فى الحج ، وعليهن بالصبر والتؤدة ، وعلينا جميعا أن نتقبل ماأراده الله لنا ويكفى أن نحمده ونشكره أنه نجانا من هذا الحادث المروع . التزمن الصمت وسكتن ، والكل رضى بما كتبه الله لنا ، وكنا على مستوى الحدث ، إلا أن الشرطة هناك لم تسكت ولم تقدر مسئولياتها نحونا وخاصة أننا حاولنا أن نفهم أفرادها فى كل مرة يأتون إلينا فيها ليحذرونا من الجلوس فى هذا المكان أن خيمتنا كانت من خسائر الحادث وأنه لامأوى لنا إلا الجلوس فى الشارع وماهى إلا سويعات قليلة وسنبرح المكان كله ، ولكنهم لم يقدروا مانحن فيه ويقوموا بتنفيذ الأوامر الصادرة لهم بمنتهى الصرامة ، لذلك حاولنا أن نتجنبهم قدر الإمكان . وبين الترقب وقراءة القرآن والدعاء جاء وقت تحركنا بعد أن قارب الوقت من الثانية صباحا وصعدنا على السلالم المتحركة لأعلى الجسر ، ثم واصلنا السير حتى سطح المسعى ، بدأنا نرمى الحصيات السبع عند كل عقبة ونكبر مع كل حصاة ، ثم وقفنا للدعاء ، عدا جمرة العقبة الكبرى ، انصرفنا بعد الرمى مباشرة ، وكانت الساعة تشير إلى الثالثة والنصف صباحا ، خرجنا من منى ، وذهبنا إلى الفندق مباشرة ونحن نعانى عناء مبرحا من جراء السير ، فأقدامنا لم تستطع أن تتحملنا ، ولم نصدق أنفسنا أننا فى غرفنا . أخذنا حماما باردا ، وتوضأنا وصلينا صلاة الفجر من غرفنا التى هى جزء من الحرم ، ثم رحنا نغط فى نوم عميق . 
















بعد سويعات قليلة لاتعطى راحة كاملة لأجسادنا المنهكة ، قمنا بأعجوبة وذهبنا للمطعم لتناول طعام الإفطار ، ثم صعدنا للراحة مرة أخرى ، وكان موعد الذهاب إلى منى محددا بعد صلاة الظهر مباشرة ، أدينا الصلاة فى الغرفة ، ثم نزلنا لمدخل الفندق أسفل الوقف ، حتى جاءت الحافلة وتوجهت بنا إلى منى ، وماحدث البارحة حدث اليوم ولكن هذه المرة الحافلة قربت المسافات هنيهة ونزلنا منها عند مدخل النفق مباشرة بسبب منع دخول الحافلات فيه لدواعى تنظيمية ، فلازال الحادث يلقى بظلاله على أرجاء منى . وسرنا على أقدامنا حتى بلغنا الجسر المؤدى إلى منطقة الخيام ، ودخلناها بعد صلاة العصر . وهنا عرفنا أننا سنتجه للخيمة مباشرة بعد أن تم تجهيزها من جديد وتم رفع كل مخلفات الحادث منها وتطهيرها ، بدأت المناوشات والهمهمات تأخذ حدتها فى المناقشات الجانبية من جانب السيدات ، ثم ارتفع صوتهن وخاصة بعد أن علمن أنها كانت مسرحا للحادث وأن جثث القتلى تم تكفينها ورصها فوق بعضها البعض وبقيت بها لمدد طويلة ، فقد اعترضن بشدة على الذهاب إليها وبدا عليهن التوتر والقلق الشديدين والخوف من أن تصيبهم أمراض الأوبئة ، وخاصة بعد رجعوهن للدكتور علاء عبد النعيم طبيب البعثة الذى أبدى تحفظه الشديد وأخذ يدلى بدلوه فى هذا الموضوع وأفاض فيه وشكك الكل فى الإجراءات التى قامت بها سلطات الطب الوقائى بوزارة الصحة بالمملكة وهيئة الهلال الأحمر السعودى بالفعل والتى لمسناها ورأيناها بأعيننا ، حيث قال إنهم لن يستطيعوا حماية الجثث من تحللها نظرا لكثرة عددهم وشدة درجات الحرارة وتأخرهم فى نقلها . لقد صعّد الدكتور علاء المسألة وصعب الموقف وأزمه ، عندما أجزم بأن المكان كله مهيأ لسرعة انتشارالميكروبات بفعل الغازات الناجمة عن التعفن البكتيرى والذى ينتج عنه انتفاخ أجسام القتلى وانبعاث الروائح الكريهة منها ، ولاأحد يستطيع أن يمنع انتشار الأوبئة الأكثر فتكا مهما كانت محاولاته فى التحكم فى منع تفشى الأمراض التى سوف تنتشر كالنار فى الهشيم فى جو مليئ بأعداد مهولة من البشر ، وأن حجم الكارثة سيكون كبيرا . اختلفت الثلة ، ووصل ببعضهن إلى حالة من الهلع والزعر الشديدين ، وبعد جدل حاد مع مشرفى الرحلة قرروا فى أول الأمر عدم الذهاب ، ثم عدلن بعد تداول المناقشات مرة أخرى وتعهد مشرفا الرحلة بتوفير مكان أخر لهن فى حالة عدم رضائهن . وذهبنا إلى الخيمة لاحظنا ونحن نسير فى شارع ( ٢٠٤ ) أنه مغسول بالزيوت ، ربما كانت زيوتا مطهرة أو زيوتا تعمل على منع الروائح الكريهة ، ولكننا لم نر شيئا يصدّر الخوف فى النفوس ، فالخيمة تم تجهيزها بشكل جيد ومفروشة بفروش جديدة ، والأمور على خير مايرام ، ولم يعترض الدكتور علاء ولم نر له أية تحفظات فى أى شيئ سواء فى داخل الخيمة أو خارجها ، بل وجدناه يدخل الخيمة وتعامل مع الموقف بشكل طبيعى جدا ، وعرفنا عنه أنه يبالغ فى كل شيئ بعد أن رأيناه يتناول ماتوفر فى الخيمة من صنوف الفاكهة والبسكوتات وكل المشروبات المثلجة والساخنة ولم يبأه من انتشار الأوبئة التى تحدث عنها وصال فيها وجال . قمنا بصلاة العصر والمغرب والعشاء قصرا وفى أوقاتها ، وقضينا الوقت حتى الساعة الواحدة من صباح يوم الثانى عشر من ذى الحجة ، ثانى أيام التشريق فى ذكر لله تارة ، والتحدث فيما بيننا تارة أخرى ، حتى فارقنا خيمتنا متجهين لمسعى الجمرات مرة أخرى ، وفعلنا ماسبق أن قمنا به فى رمى الجمار ، حيث رمينا الجمرات الثلاث متعاقبة (الصغرى، والوسطى، والكبرى) ، وبعد أن انتهينا من هذه الرمية هنأنا أنفسنا بأننا أتممنا حجتنا على خير ، وهممنا للخروج من منى متجهين إلى مكة وهو مايسمى بالنفر الأول بحكم تعجلنا ، وكان ذلك قرب الفجر . وفى طريق العودة خضنا فى زحام لم نر له مثيلا ، حيث رأينا الكثير من الحجاج أثناء مرورنا بينهم أن وضعهم فى أسوأ مايمكن للإنسان أن يتخيله ، الكثير منهم يتمدودن فى كل مكان وكل شبر ، الأرصفة ، الطرقات ، أعلى الجبال وبين ثناياها ، ملابس إحرامهم البيضاء أصبح لونها قاتما يميل للسواد ، كانت للبقايا والنفايا قوام يكاد يشغل كل ماتبقى من مساحات ، درجات الحرارة القاتلة ساعدت على تفاعل هذه النفايات بالحرارة فى لهب الصحراء ، كان أثرها تلك الرائحة التى انتشرت فى كل قوام الفراغ الجوى وأزكمت كل الأنوف ، دورات المياه محدودة جدا بالقياس إلى كل هذه الأعداد المهولة الموجودة ، إن العناية الإلهية وحدها هى التى تحمى هذا الجمع البشرى الهائل من أشد الأوبئة فتكا.








عدنا إلى مكة ممتنين .. فرحين بما أتانا الله من فضله ، ولم يبق لنا إلا يوم واحد نرتاح فيه ونتسوق ، اتفقت أنا والمستشار محمد على أننا سنجعل طواف الوداع قبيل فجر اليوم التالى ، أى مع أولى نسمات يوم السفر ومغادرة أرض مكة بسويعات ، أما هذا اليوم أدينا فيه الصلوات فى أوقاتها ، وبجوار الكعبة مباشرة ، وقبل وبعد الصلوات كنا نتسوق ، كان الأقرب لنا أسواق برج زمزم بوقف الملك عبد العزيز الذى يذخر بالكثير من المحلات التجارية  وخاصة أسواق بن داود ، أسعارها متوسطة إذ تجمع مابين الغلاء والسعر المقبول ، وأيضا القزاز أمام الحرم كان متجره مقصدنا دائما ، وغيره وغيره من المتاجر والمحلات والحوانيت التي كنا نتردد عليها كثيرا ونحن في طريقنا للصلاة أو أثناء العودة . اشترينا مااشتريناه ، واسترحنا على قدر الوقت المتاح ، وبعد صلاة العصر ومع جولة تسوقنا الأخيرة حدث لى موقف طريف جدا ، كنت دائما أنا والمستشار محمد كلما دخلنا متجرا للعطور نتجول فيه ، وما كان أحب علىّ من أن أجرب مايعجبنى من عطور وبارفانات وأتطيب منها قدر المستطاع على وجهى وملابسى ، ولما كنا فى متجر بن داود لفت نظرنا زجاجات عطور صغيرة وفخمة ولم ندرك بأننا لم نكن فى قسم العطور ، ولم ندر أننا كنا فى قسم الأدوات المنزلية ، تناول كل واحد منا زجاجة كعادتى وهممنا أن نجربها معا هذه المرة على أيدينا ، المستشار محمد أدرك قبل منى أنها مجرد ولاعة على شكل زجاجة بارفان ، فأبعدها بسرعة عن يده عندما شعر بحرارتها ، أما أنا فقمت بالضغط عليها بكل ثقة فانفتح لهبها على راحة كفى ولسعته بشدة ، وتسببت فى حرق جزئى فيه ، ورغم شعورى بالألم الشديد إلا أننا لم نملك أنفسنا من الضحك الهستيرى المتواصل ، أصابتنا فوبيا الضحك ، ولكنى فى ذات الوقت أحسست وكأنه عقاب من الله على كل ماقمت به من تطيب دون وجه حق وأراد أن يطهرنى من هذه العادة قبل انقضاء رحلة الحج ، انهينا تسوقنا مسرعين وذهبنا للغرفة ، وهرعت إلى الدكتور علاء ، وكان لحسن الحظ أن معه حقيبة صغيرة تحتوى على أدوية ومراهم كثيرة أحضرها معه وقام بتركيب مرهمين معا على مكان الحرق وسرعان ماشعرت بالراحة ، ولكن لم أتمكن من حمايتها من الماء أثناء التوضأ لبقية الصلوات المتبقية ، حيث انتفخ مكانها والتهبت ووجدت صعوبة بالغة عند جمع متعلقاتى وملابسى وحاجياتى فى حقائب السفر التى أتممنا تجهيزها بعد صلاة العشاء ، ثم قمنا بوضعها أمام الغرف وفقا لتعليمات المشرف . بعد منتصف الليل جهزنا أنفسنا لتأدية طواف الوداع ، نزلنا للحرم بدءا من الساعة الثانية صباحا ، إننى لم أر الحرم بمثل هذه الروعة ، ولا بهذا الرونق والجمال ، والغريب أننى فى كل مرة تقع عينى فيها على الكعبة أشعر وكأننى أراها لأول مرة ، فهى تبدو فى أبهى حلة وأجمل صورة تغمرها الحضرة الإلهية ، كأنها تريد أن تترك فينا إحساسا بالتشوق إليها ونحن لازلنا فيها ، صعدنا للدور الأخير وبالطبع الدوران حول الكعبة من الدور الأخير يعادل أضعاف الطواف حول الكعبة نفسها ، ولكننا طفنا بكل رحب وسعة واستمتعنا بجمال المنظر من أعلى ، وبحلاوة الدعاء فى الفراغ الممتد حوله ، وإفراغ ماتتمناه النفس فى جو يعبق بالسحر والجمال ، وماأن انتهينا من طواف الوداع حتى رُفع آذان الفجر الأخير لنا ، قمنا بصلاتها وصعدنا للغرفة سعداء فرحين بإتمام مناسكنا بسلاسة ويسر ، حاولنا أن نرتاح قليلا استعدادا للسفر ، ولكننا لم ننم ، وأخذنا الحديث حتى غفلنا عنه وأسدلت أجفان أعيننا أهدابها هنيهة .











وآن للركب أن يصل إلى منتهاه ، وأوشكت الكتابة على النفاد لهذه الرحلة الفوقية فوق كل شيئ .. فوق كل أسفار الدنيا ، وفوق كل الأسباب الدنيوية والطبيعية والنفسية ، فهى رحلة روحية خالصة ، إننى لا أصدق أو أريد ألا أصدق أنها انتهت ، وأننا سنعود إلى الدنيا من جديد . وكأن كل ماقصصته كان شيئا يشبه الحلم الجميل الذى لاأريد أن أفيق منه أبدا ، إننى لاأريد العودة لدنيا الناس بعد رحلة حج فيها العقل إلى الحقيقة المطلقة ، والقلب إلى معنى الخشوع الدائم ، والجوارح خضعت خضوعا تاما لصاحب وجودها ، والنفس عرفت ووعيت أن الجود لمن يملكه ، والكرم لمن أحياها وأفاقها بعد موات حسى وفقدان عقلى وتوهان قلبى  ، وأخيرا أسلمت كلها لمن لاحول ولاقوة إلا به . وإن كان مداد قلمى أراد أن يترك بصمة حب عن شرف التواجد فى البقاع المقدسة فى المدينة المنورة ومكة المكرمة ، إلا أنه يعلم أن للحديث بقية لاتغطيها الكلمات حتى ولو كُتبت بملء الأرض ، وعبرت عنها كل فنون الكتابة من نظم وشعر ونثر ، لأنه حديث متصل بلا انقطاع ، يحلو فيه الكلام ، وينطوى على شجون كثيرة ، إننى سأقف طويلا أمام كل لحظة عشتها فيها أوعايشتها هناك ، دقيقة بدقيقة ولحظة بلحظة ، تصحبنى فيها إحاسيس عميقة بالامتنان لنيل شرف أداء هذه الفريضة الغالية ، وبوح مشاعر فياضة وجلاء قلوب عاشت هذا الحدث وعجزت عن الإشارة إليه ، إلا من الصمت والدموع ، ولهذا بكيت وأنا ذاهب لعرفات ، وأنا فى عرفات ، وأنا أغادر عرفات ، لأننى عشت لحظات مع النفس والله ، ذلك الانبعاث الروحى للحب الإلهى الذى يضيئ مجاهل القلب وعتمة الروح ، ولايمكن وصفه ولايمكن شرحه ولايعرفه إلا من عاشه وجربه ، وماأكثر ماشعرت به فى الحج من آدبيات ومقاصد ورؤى ، ولاأجد لها كلمات ، أن الحج خروج من الأسباب إلى المسبب ، والخروج من حولنا وقوتنا إلى حوله وقوته وحده ، والخروج من أداء المناسك إلى الخوض فى رحمته .














بدأنا يوم السفر بمغادرة مكة فى الساعة التاسعة والربع صباحا ، وصلنا إلى قرية الحجاج بمطار جدة حوالى الساعة العاشرة والنصف ، أى بعد ساعة وربع تقريبا ، دخلناها وقمنا بشراء ماء زمزم التى كانت تباع على جوازات السفر ، فمن حق كل فرد أن يحصل على زجاجة خمسة لترات معبأة بطريقة جيدة ، ومغلفة بإحكام ويسمح لها بالشحن على الطائرة ، ثم جلسنا فى العراء ومع سخونة الجو ودرجات الحرارة العالية ، والرطوبة المرتفعة جدا عشنا وقتا طويلا جاوز الثامنى الساعات ، فقدنا فيه الأمل حتى بلوغنا صالة السفر ، ولن نصدق أن الدور حل علينا وأننا سندخلها . دخلناها والحمد لله حوالى الساعة الخامسة مساء ، وعلى أبواب الصالة وزع علينا المصاحف التى تطبعها المملكة مجانا مع بعض الكتيبات التى تحتوى على الأدعية والإرشادات الدينية ، بدأت إجراءات الوزن وختم الجوازات للمغادرة ، ومن سخونة شديدة لبرودة أشد ، فالصالات مكيفة بإفراط ، وهو مااتعبنا صحيا بعد العودة ، إجراءات الوزن والمغادرة لم تأخذا وقتا ، ولكننا قضينا وقتا طويلا أخر عند مهبط الطائرة من الساعة الخامسة والنصف إلى الساعة الحادية عشرة ، وبسؤال المختصين فى شركة مصر للطيران عن هذا التأخير المبالغ فيه جدا ، قالوا لنا إن طائرتكم لم تأت بعد ، لأنها قامت برحلة أخرى لشرم الشيخ ، وهى الأن قادمة من هناك لتقلكم فى طريق عودتها للقاهرة . ولم نصدقهم ولم نقتنع ولم نهدأ ، فميعاد رحلتنا الرابعة بعد الظهر ، وميعاد الوصول إلى القاهرة الخامسة والنصف ، فهل شركة مصر للطيران لم تكن لديها طائرات كافية تغطى بها جدول رحلاتها ، أو ليس لديها رصيد كاف من الطائرات الاحتياطية تعالج هذه العشوائية حتى تضطر أن تربط رحلتين معا بهذا الشكل الهزيل ، وتُحملنا على رحلة شرم الشيخ أو تُحمل رحلة شرم الشيخ علينا رغم أن ثمن تذكرة الحج هذا العام كان باهظا إذ بلغ أثنى عشر ألف جنيه وثمنها الأصلى لايتجاوز أربعة ألاف جنية ، أى ضعف ضعف سعرها الحقيقى ، أمر عجيب حقا . المهم أخذتنا الحافلة إلى الطائرة ، الطائرة لم تأت إلى قرية الحجاج الواقعة فى أقصى مطار جدة كباقى طائرات الحجاج ، سارت الحافلة فى ممرات المطار نفسه أكثر من نصف ساعة وسط دهشة الجميع ، وخاصة أن الحافلة ليس بها مقاعد إلا من قليل فهى مصممة على هذا الشكل ، والمفروض أن المسافة من المهبط إلى الطائرة لاتتجاوز بأى حال من الأحوال نصف دقيقة ، فكانت مكتظة بركاب الطائرة وهم كثيرون والوضع فى عمومه يدعو لضيق ذات الصدر ، ويخرجك من الحالة الذى جئنا بها من الأراضى المقدسة قلوبنا وعقولنا بيضاء كما ولدتنا أمهاتنا إلى زخم الدنيا وحمل الذنوب والخطايا من جديد ، سبحانك يارب فى خلقك . أخير وصلنا للطائرة فى أجواء سادها التوتر والزهق الشديدين ، صعدنا الطائرة حوالى الساعة الحادية عشرة والنصف ، ولم يشفع الوجوه الجميلة للمضيفات وابتسامتهن التى لاتفارق ثغرهن أن تزيل مانحن عليه من توتر وضيق ، رغم إبداء أسفهن كثيرا على هذا التأخير الذى ليس لهن ذنب فيه . تحركت الطائرة من ميناء جدة الدولى حوالى الساعة الثانية عشرة إلا ثلث صباحا ، وصلنا بسلامة الله الساعة الواحدة والربع . هبطنا من الطائرة  وتفاجأت بوجود أحمد العبد زميلى فى مجلس الشعب ومسئول العلاقات العامة الأول واقفا بسيارة المجلس عند سلم الطائرة ، ورغم أنه عندما رآنى جاء وصافحنى إلا أنه قام بالنداء على المستشار محمد ، ولم يدعُنى للركوب بل ظل يتفحص الهابطين من سلم الطائرة وما أن رأى المستشار محمد حتى أخذه وانطلق به ، ولم يمهلنى الوقت كى أفكر بسخط واستياء وحقن من هذا الموقف الغريب ، حتى تفاجأت بوجود أفراد من القوات المسلحة بسيارة فخمة ينادون على اسمى ، وركبت معهم وذهبوا بى لصالة كبار الزوار وأنا فى ذهول حيث جلست فيها منفردا وتولوا هم بقية الإجراءات من ختم الجوازات واستلام الحقائب من على السير ، وبعد أن انتهت الاجراءات خرجت فى صحبتهم من نفس الصالة ، فوجدت أمامى صديقى وأخى نبيل ومعه ابنتى فيروز فى انتظارى، وعرفت أنه هو الذى قام بهذه التوصية التى كسرت سخطى وحدتى من التصرف البغيض لزميلى مندوب العلاقات العامة . أهكذا أسدلت الرحلة أستارها بوصولنا إلى أرض مطار القاهرة الدولى بسلامة الله بعد يوم طويل وشاق ، وهكذا تفرق الأخِلاء بعد جمع ، وتشتت الجمع بعد تعايش فى محبة وإخلاص ونوايا حسنة ، وعدنا إلى ديارنا ، وعادت معنا أحلامنا وتوارد خواطرنا وأمانينا تتطلع من جديد نيل شرف العودة ، تجرنا أشواقنا إليها ، وتعلقت قلوبنا بها ، ترجو المدد بمن لاينتهى مداه ، والفيض بمن يملك المن والعطاء ، أن نعيش منتظرين إشارة العودة من جديد ، ومن غيره يمنح ، ومن غيره يعطى ، ومن غيره يستجيب ، وهو الذى رحمته ومدده وعطاءاته وسعت كل شيئ ، لذلك نويت مستقبلا والنية لله أن أحج لروح أمى لأن ظروف حياتها حالت دون تلبية هذه الأمنية الغالية ، فالواجب على أن أؤدى هذه الفريضة عنها وأهبها لها ، إذ قدر لى أن يمتد أجلى ويكتبها لى مرة أخرى ، وكما بدأت بأمنية ، انتهيت بأمنية اللهم لاتحرمنى إياها ، واجعلنى ممن سينالون شرفها لمرات عديدة استجابة لكرمك وفضلك .. ياأكرم من سُئل ، وأجود من أعطى .
















مع خالص تحياتى : عصام           
  القاهرة فى سبتمبر ٢٠١٧