كلاسكيات مصرية

الأحد، 27 أكتوبر 2013

رسالة إلى والدى .. قاهر الألم









مقدمة

لاأدعى لنفسى أننى أجيد كتابة الشعرعندما قررت أن اكتب فيه ، ولكننى كنت ولازلت أؤكد أنها محاولات ، مجرد محاولات لرسم بعض الأحاسيس الوجدانية الخاصة بى عن طريقه ، فكانت تجربتى الذاتية هى المنفذ الوحيد للتجربة الشعرية ، منها تسللت لوجود الرغبة فى مسألة الخوض فيها ، رغم إيمانى الشديد بأن خبرتى بكتابة الشعر محدودة للغاية ، حيث إنها  لاتتعدى مباهجى وقدراتى المبكرة فى الرسم والقراءة وكتابة الخواطر، وإنما جاء انفتاحى عليها نتيجة طبيعية لاكتسابى لبعض مداركها عن طريق الدراسة إبان دراستى الجامعية بتتبع مسارها قديما وحديثا ، بدءا بالشعر الجاهلى وانتهاء بالشعر الحر ، والمسافة مع الفارق كبير . وكان أسهل عندى أن أفهمها من أن أخوض أى تجربة فيها ، لأن تجربتى الشعرية إنما جاءت باجتهاد ، وليس عن موهبة ، وأن كتابة الشعر فى حاجة إلى قدرات خاصة وموهبة نرجسية تستلهم كل الطاقات المبررة والمعقولة بفيض حب اللغة وركام مفرداتها والرصيد المعرفى لأدق تفاصيلها والإلمام الشديد بالمعانى الرصينة لعمق أغوارها والبراعة الفائقة فى استخدام ألفاظها أفضل استخدام ، وانتهاء بالمقدرة على الوصول للمتلقى باجتراحه الفهم مابين السطور، وكثيرا ماشغفت بكتابات شعرائنا الكبار، فدائما ماتستوقفنى كتاباتهم وتجعلنى لاأدرك أسرارها إلا بتتبعها والاقامة بين فجاج أعاصرها وفهمها ، من هنا تعلمت أن الإنصات إلى نتاج الغير لهو الأفضل والأرقى والأجمل من مشقة الخوض فى كتابتها ، لأن الوقوف على مسافة معقولة لأى تجربة شعرية ومراقبتها والتربص لها تجعلنا حالمين فى هتك أسرارها الموحية بها ، والراصدة لها والداعية إليها ، فالتجربة الشعرية تجربة خاصة تسكن فى الأبعاد البعيدة برحابة المقصد فى توصيل المعانى بشكل فلسفى يعيد للألفاظ تألقها ورونقها فى ظل توسيع دائرة البحث عن الجوهر وإبرازه فى تكات أو شطرات . وكثيرا ماأعجبتنى كتابات أصدقاء كثيرين لديهم هذه الملكة وتلك الموهبة ، سواء كان التلقى بطريق السمع أو القراءة . فالشعر مد جميل للمشاعر الإنسانية يتغلغل فى شرايين الواقع النفسى لينخرط فى الواقع الحسى ومعاناته ، بوصفه وكشفه فى عمق المعانى وجمال ألفاظها فى استخراج الجمال من مواطن بيئتها الطبيعية وتقديمها فى صورة شعرية تعكس مدى قدرات كاتبها الفنية والثقافية وحسن توظيفها فى ثنايا النصوص .

هذا ماأردت أن أقوله وأوضحه ، حتى جاءت كتاباتى الشعرية قليلة جدا ، ألجأنى إليها الألحاح الداخلى وهو الذى دفعنى للخوض فيها ، فأنا لم أكن سوى عابر سبيل لتجربتها الصعبة ، وليس أى شعر أكتبه بل لايتعدى ولايتجاوز الشعر الحر أو الحديث أى نص متعدد التشاكل يتلون وتتعدد إيقاعاته ويسمح بسرعة التنقل بحركية الكلام ليصيرللنص رؤية إرسالية ترسل وتستقبل ، هى نفسها العلاقة بين ماأكتبه ومن يتلقاه ، فدلائل نصوصه تجعله أبسط درجات الشعر من حيث الملاءمة وسهولة التناول وعدم الالتزام بالوزن والقافية ولاالتقيد بالنظام العروضى لأبحر الشعر حتى لاتكون هى المحددة فى بناء النص ، وإن كان يُبقى على بعض مظاهرموسيقاه الخارجية بانتقاء المترادفات وحسن استخدامها كإيقاع كى لايتخلى عنها كلية من أجل تماسك النص ، إلا أنه يرتكز وبصفة أساسية على الموسيقى الداخلية له وإيصالها على نحو يعطى مكونا يُبنى على التقاط  الموهبة لها  ولأسرارها ويفصله عن النثر خيط رفيع لايدركه إلا الذين يعرفون مسارات الشعر ودروبه ومسالك اللغة وبلاغتها ومفرداتها واستحضارها .
هذه رسالة لأبى كتبتها بفيض الخاطر ، عرفانا بجميله ، ومناجاة لسيرته ، ومحاكاة لطلعته وعطاءاته التى لايحفها حدود ، وارتساماته لهدى طريق سرت فيه على دربه ، متمسكا بإيمان فضله ، ورقى حسه ونقاء سريرته ، وقيمة قدره ، وعلو هامته ، ومعدن أصله ، فعرفت معنى الاحتواء والحماية والاطمئنان منذ نعومة أظافرى ، وكيف أنها كانت تنطوى على قدر كبير من القيمة لديه وماتنضوى عليه من عمق قدرته وعطائه وفضله .
  مع خالص تقديرى وامتنانى : عصام
القاهرة فى أكتوبر 2013




سيدى.. بعد التحية والسلام


لك وحدك أكتب أشجى كلام
سيدى .. 

كلماتى إليك .. عَبارات


تسقط  فرادى


دمعة .. دمعة


بعدها الشلال


جاءت الدموع وفاضت

بعد أن هربت منك الحياة

والإبتسامة منا بهتت وشاطت

والضحكة ولت

والفرحة كلت وراحت

فانهمرت الدموع .. 

ثم مزيد من الدموع
سيدى ..


لاحيلة لى إلا دموعى


بعد أن تكسرت جذوعى


وتهشمت دروعى



وتصدعت جدرانى


فأصبحت أعانى انكسارى


من ضربات الزمن 

فى بُعدك وانحسارى


وهاآنذا عارى الكفين ..


أصارع وحشتى


وأحس فى غيابك


غربتى ووحدتى


بعد أن عشت فيك


زمانى ومكانى


أجمل ما فى حياتى


وعندما ذهبت ..


ضاع منى زمانى 


وضاق بى مكانى


لكنك علمتنى سيدى 

كيف أواجهه بذاتى


والوقوف أمام ضرباته


وعلمتنى السباحة ضد تياراته


علمتنى دأبا فى حياتك

كل أطواره .. 


وكيف أنشب أظافرى 


على الحجر الصوان

وأكتب على الجدار


أثبت بها وجودى


وأترك بصمة على المدار


مآثر حياتى

نقوشا من ذاتى


بسمة فى كل دار


محفورة بكدى واجتهادى 

بنفس أبية وجسارى

  
رموزا وطريقا مُعبدا ودَثارى


ليسلكه من بعدى 

أحبابى وصغارى .






سيدى ..


أنت الرجل الرشيد


الذى علق بك القلب


ورحلت ..


فتصدع القلب


ومضيت أجمع شتاته وأشلاءه


ولم أزل


أمضى حياتى أبحث عنك


لازالت أبحث عنك


ورغم أحزانى


لم يضع منى عنــواني


ولم تطح العقبات أركانى


مادمت فى بقايا أشيائى


فى إحساسى ووجدانى


رأسـى وأذانـى


حركاتى وسكناتى


أفراحى وأتراحى


ونوحى وأشجانى


موجودا ..


مصونا ..


معشوقا ..


كامنا فى زفرات أنفاسى


مستلهما منك خطوات ابنائى


يا صاحب القلب الكبير .



سيدى ..


تذكرت سنين بعيدة


كنت أحج إليك مريدا


كل غداة ورواح


أتذكرك


كل مساء وصباح


على معدية الأمانى


أسمع قصص الأغانى


ومواويل الغربة والدار


وزمن العشق والنار  


وقبل موعد الغسق


غابت حياتك

فتسلقت الشهق


واستعذبت الملق


لاشتم فى ورد الجنان العبق


وجمال العشق من زمن النزق


وبعد الغسق


ضاع الرمق


ورحلت بعيدا


وتركتنى وحيدا


عانيت الغربتين


المكان والورى


ثكلت الدنيا


وواجهت الردى


وأُغتيلت النفحات


وروض العشق مات


وزمن الصبح فات


صاغت روحى واستنهضت


والأيام فى بعادك استرهبت


والقلوب لك بالدمع اغرورقت


وعن رغد الأيام استفسرت


حتى تهاجت واستنكرت


غدر الزمان .


سيدى ..


لازلت أتذكر حسن المقام


ودأبى على المرام


عندما كنت على كتفيك أجلس


وبيديك الحانيتان تحبس


 قدماى


وتضمهما إلى صدرك


وأحسدك على صبرك


كلما امتطيت صهوك


تلف وتدور فى المكان


ولما سرت شابا


كنت لى سببا


للعلم وللحياة إيثار  


ولأمور الدنيا منك استفسر


وأراك تجول وتتفقه ..


وتجود بالجواب


كنت أناقشك كثيرا


وأجادلك أكثر

ولم أع أن فهمك للحياة


كان ثاقبا وللحقيقة أقرب


اليوم أدركت حكمة إصرارك


وكشف أغوارك


وعبقرية أفكارك


وعفوية أسرارك


فتعلمت منك وعرفت 

كيف أقتفى أثارك


من سكوتك لحوارك


وإنسانيتك العطوفة وأفكارك 


وودك للناس منذ نعومة أظفارك


وكرمك وجودك بلا حدود 

رغم ضيق ذات اليد وافتقارك



سيدى ..


لازلت أمطتى جواد قوتك


فأخترق بك الحصون


وأعبر بك البحور


وأحطم بك الصخور


فكيف لاأكون بك فخور


حتى أزهو وانتشى


لعبارات المديح وأفتشى


كلما تواثبت الخواطر من خيالى


أتوهم وهج وجهك المضيئ أمامى


يهمس فى أذنى ويداعب أجفانى


حتى إذا مالت للمنام


أصحو ..


لأواصل رحلة العذاب بمتعتى 


ينصهر وجدى وتذاب وجنتى


عن وجه تلاشى وذهب لوحشتى  


أهرع لرحلة البحث عن الذات  


لازالت ابحث عنك


وعن حضنك الدافئ


ياكبير القدر ياغالى


وكلما توالت الخواطر


أتلذذ بالعذاب أكثر


وأسبح فى أمواج اجتياحى


كى تفيض المعانى


وألقى ماأكتبه على شاطئ أحزانى


نظم الأغانى 


وتراتيل المساء


إننى أكتب فيك كى أرتاح


من كلام شهر زاد المباح


ومابين الرجاء والسماح


جاوزت المعانى حدود المتاح


بكلمات ساهبة مطلقة الجماح


عن أحداث وشخصيات أثروا حياتى


حتى فاض المعين


وأدركنا المسير


فى الوادى اليسير


والكلام المستباح


فملأ الخاطر جنباتى


أما عنك أكتب كى أفرغه


فتسكن أنت وحدك سويدائى


معانقا قلمى وأوراقى


 تحثنى ..


التحلى بالأمل والأمانى


 فتثير مبعث كوامنه فى نفسى


 فأصرخ وجه الزمان أحلامى


 لأنك أنت الذى زرعت الأمل فى حياتى


 وجعلته  واحتى وأمنى وأمانى .



سيدى ..


وجهتنى


أن أكون فى أقسى ظروفى عفيا


تذودُنى وتقول لى كن قويا


شديدالبأس .. سويا


لاتبدو مهزوما ولا مستعفيا


علمتنى الإعتدال


وأخذت عنك الطيبة والكمال


وكيف يكون الوفاء


واستلهمت منك القوة والإباء


وفرقت بين القيمة والبلاء


وأصبحت ألقن أبنائى كلماتك


بفن وإعلاء


فكلماتك نور وقبلة الضِياء


أنت الذى وجهتنى إليها


فأنت موضع القلب فى جسد


لازال يمشى على الأرض .



سيدى ..


إننى أذكرك كل يوم وليلة


بل كل صلاة


ابتهال ودعوات


تفرغ من القلب فجوات


ويطيب الدمع سمحا


والأكف ترجو الرحمات


نسأله وهو الحبيب


ومن غيره يستجيب


وأكتب عن أحوال الدنيا ، وأحوالى


وعن إرث حب الناس فى ذاتى


تركته لى رصيدى وأموالى


وعن مواقف لك فيها بريق ولمعة


فكم أضأت لنا حياتك شمعة


أشاعت لنا نور الأمل فى اللحظات المقبضة


ونور البهجة فى الليالى الحالمة


كنت تحترق كل يوم فى ثبات غريب


تتألم  ولاتصرخ .. فى جلد مهيب


تحترق ولاتأبه بلفحات الزمن الكريب


ورغم قسوتها عليك


علمتك الحياة الكثير


وأخذت منك أيضا الكثير


ومع ذلك بقيت شامخا


تنعم بأجمل مايجود به الزمان لك


وهو قليل


راحة البال


وعدم الخوض فى سير العباد


والصبر على البلاء


حينما تضع رأسك على الوسادة


فى برهة تطيب عينك وتنام


نوما عميقا


حسدك عليها اللآئمون


وعلى نقائك المتفرد


تهامس الحاقدون


فلم تتكلم عن أحد بما يسئ


وإن اغتابك أحد لاتفيئ


فالقول دوما منك سديد


أيها الفذ ذو القلب الفريد


كم كنت جلدا صبورا 


حتى فى مرضك الأخير


كنت تتحلى بوداعة وإيمان


وهدوء النفس والنفيس .



سيدى ..


أنا بعض منك


أسير على أرض الواقع


لاأملك لك إلا الدعاء الصالح


وليكن كل يوم مباركا


ذلك ماتهفهف فيه روحك الوضاءة


وتزورنى فيه ذكراك


تجاذبنى الحديث 

وتحثنى على الأمل


وحب الحياة 

ومواصلة العمل


وأن أصر عليها إصرارا


واتمسك بها انتصارا

وجعلت لى الحياة قيمة


وقدرة واقتدارا 


واختزلت لى تجربة حياتك 


مثالا يحتذى به اختصارا


لاجعلها فى قبضتى 

بصيرة وابصارا


لازلت أمسك عليها أكثر وأكثر


وأحاول قدر استطاعتى 

إصلاح من نفوس الناس شِرارا


ومر الجحود والغل مرارا 


والمضى قدما بلا ملل


خطوات ثابتة إلى الأمام بلا كلل


وأن أجعل قلبى ..


لاينسى الماضى


وينبض بالحاضر

ولايركن لليأس


ويعرف معنى الحب 

وقيمة العشق بالتراضى


وكيف يدق فى صدر الحياة


بلا أهوال أو إعراضى






أبى ..


 ياأجمل أنشودة 

صيغت فى شعر موزون


وبكل الابجديات 

كُتبت فى نثر محكوم


بالإطناب والجناس والسجوع


ستظل فى لوحات خيالى


حلما مرسوم


وفى وجدانى طيرا


للجنان يحوم


سماؤك صافية لم يعد فيها


سحب قاتمة ولاغيوم


وكعهدنا بك ..


لم نشعرفى حياتك


كربا ولاهموم


هندست حياتنا 

وكنت تعانى من سقوم


وتركتنا والقدرالمقسوم


أرانا امتدادا لك 

مع كل يوم صبوح


نستقبلك فى الأفاق 

كحبات الندى ضحوك


وعلى أوراق الورد 

نجدك لؤلؤا ونجوم


سيظل هذا القلم فى حقك


يكتب ويجود 


حتى إذا مانعانى ، يغيب


وختاما يانبع الكرم الصافى


ياذا الوجه الطيب النجيب



قبل أن أهم بلم قلمى وأوراقى ، حيث أرسم الكلمات الأخيرة فى هذه السطور ، اسمح لى أن أدعو لك أنت وأمى الغالية بأن يتغمدكما الله بواسع رحمته ، وأن يكرم نزلكما ، وأن يغسلكما بالماء والثلج والبرد ، وأن يفسح لكما فى قبركما ماكان مد البصر ، وأن يجعل قبركما روضة من رياض الجنان الفردوسية ، إنك سميع مجيب الدعاء يارب العالمين ، اللهم آمين .. اللهم آمين .. اللهم آمين ، هذا دعائى لكما ، ليس الأول ولا الأخير .


أبى الغالى .. أمى الغالية ، وحشتونى