كلاسكيات مصرية

الجمعة، 18 أكتوبر 2013

الأسكندرية .. أيام وليالى ( الجزء الثانى )


حب وأشواك

فى اليوم التالى حيث كان الموعد ، استعدت وقفتى فى الرصيف المقابل فى قلق ، تأخرت ، هاتفتها .. إنها لاتستجيب لرنات الهاتف الجوال ، الوقت أصبح يمر كالدهر ، أصابنى بالافتتان والقلق البالغ، والمارة هنا كثيرون ، نظراتى الشاردة تعبت من تفحص من تصادف مرورهن أمامى من النسوة اللاتى يملأن المكان والممرات القصيرة التى تقطع الطريق طولا وعرضا ، فكثيرا ماخيل لى أنها بينهن . وقفتى وضعتنى فى حرج شديد من كثرة الالتفات والتحدق فيهن بلهفة تحتويها اضطراب يدفع خطواتى للعدو بشوق من طريق إلى أخر ، مازالت عيناى تحدق فى الوجوه بنظرات الحيرة المشوبة بالقلق فتزيدنى اضطرابا مخافة أن يلاحظ أحد لحظات الإرتباك المشيعة لعدم الراحة من ظن البعض أننى أتسكع فى الطرقات لمعاكسة الفتيات ، فالوجوه التى اتفحصها كثيرة ، ووجوه أكثر تتفحصنى فى تساؤل .. من هذا الملهوف وعمن يبحث ؟! وأنا فى تحركى أجرى وراء مالم ينالها مجال الرؤية لأتاكد من ملامحها .. وأعود أدراجى مكسور القلب .. لا ، ليست هى . أخيرا لاحت من بعيد والتقطتها عيناى ، تختلج بداخلى أهى أم لا ؟ حتى دنت منى أكثر فوثقت من رؤيتى الأولى ، نعم أخيرا رأيتها وهممت فى انتظار الإشارة ، ثم اللقاء .



 جاءتنى بإبتسامتها الدافئة الحانية التى إعتدتها منذ لقاء أمس بنظرتها الطويلة الثابتة .. ابتسامة ترتسم على شفتاها  دون انفراجهما ربما خجلا أو مجاملة وكأنها لاتريد المواجهة ، غالبا تنتهى إلى لاشيئ غير أخذ أهدابى المرتعشة نصيبا وافرا من احتضانها من فرط سحرها التى تضفى على الكثير من انشراح الخاطر . والتقينا بعد أن جاوزت عرض الشارع ، أومأت برأسها اكتفاء بتقديم تحية عابرة كنت أمنى نفسى بأسخى منها ، تمنيت أن تتعانق يدانا استكمالا لاستجابة الأمس ، ولكن ليس كل مايتمناه المرء يدركه ، واتجهنا إلى طريق الكورنيش ، ومنه إلى الشاطئ ، عند حافة قصر المنتزة ، حيث عناق الصخور البيضاء واحتضانها للغابات الخضراء بقسوة كأنها تفرض الحماية من تسلل البحر إليها ، ومع تباطؤ الخطوات وتثاقلها عمدا بلغنا المكان الذى قادته أقدامنا إليه ، عند نهاية شاطئ المنتزة ، الذى كان حقا جميلا وهادئا ووديعا فى هذا اليوم ، فلم أر البحر بهذه الروعة .. ولا السماء بهذا الصفاء وخاصة عند الغروب .. تحفة ربانية رسمتها الطبيعة .. الأضواء صاخبة لامعة تسقط من فندق فلسطين الذى يقع معظم بناياته وسط الماء فبدا وكأنه قطعة من الماس المتلألئ ، البحر هنا هادئ يتسلل على لجته ضوء خافت أزرق اللون آت من البوابات الكثيرة الممتدة عبر بوغاز يهادن الأمواج مداعبا لأطرافها .. عابثا بكسوتها البيضاء لترحل عنه ثم ماتلبث أن تجيئ فى لهفة بصدى صوت هادر يتسرب إلى أعماقى لتحيلنى إلى عالم حالم  ، تلك ماابتدعته الطبيعة فى هذا اليوم أو هكذا كانت رؤية إحساسى .. إنها لوحة حقيقية ممزوجة بخيال غض نضر .. يستقبل النسمات بقلب مستيقظ .. وعيون مسحورة .. ترى الأشياء بزهو ، انعكست على رؤيتى لوجهها اليانع وقد اختطف كل ماأودعته الطبيعة من جمال وتركتها على خديها نضارة الورود ، فأخذ خيالى يشرد ويتصور أن يضمها برفق إلى قلبى وعقلى رافضا ماصوره لى احساسى بالأمس من كافة صور الاستيلاء على قلبها بالقوة وخطف الحب عنوة ، اليوم أبدو أكثر هدوءا وتعقلا .



بدأنا فى السير بهدوء على الشاطئ  حفاة الأقدام فوق رمال الشاطئ الدافئة ، والأمواج الهادئة تتوالى مسرعة تدنو منا وتعبث بأقدامنا مستسلمة .. تلاطفها بحنان تارة .. وتتركها سابحة مبتعدة عنها تارة أخرى  وكأنها تخشى أن تدركها عيون الناس ، فتترك وراءها رذاذات البحر المنتشية فتنثره كعطر ، ثم ماتلبث أن تعود لتوها وتحتضنها مرة أخرى ، ونحن نسير مع تدفقها منشرحين ، صورة الأمواج أنعكست على كل شيئ ، فرأيتها تلمس خدها برفق ، ورأيتها تحضن الماء بذراعيها فى حنان ، ورأيت شموخها عند غروب الشمس حتى صارت عنوانا لكل جمال وسحرا لكل عين . كل هذا كان كافيا أن أسرح بخيالى فى المساحات الشاسعة أمامى أكثر وأكثر فيما أتمناه ، ويدفعنى برفق إلى السير بجوارها ، ومساءلتها الكلام ، التهب بداخلى  إحساس توهج حنينا وأشواقا وخيالات .. هالات من أنوار مضيئة تكاد أن تكشف دواخلى وتفضحنى . كنت أتعمد أن أبطئ خطواتى ، وأحيانا أتوقف تماما لأتأملها ، ثم استعيد إدراك جرأتى فى الكلام وتنطق شفتاى بكلمات بالكاد تخرج ، جمالها الآخاذ سلبنى ، إننى لازلت أتأمل شعرها الأشقر الغجرى المتطاير الذى يأبه ألا يستقر على كتفيها ، متمردا مسافرا فى كل اتجاه .. مداعب الهواء دائما ، وعينيها الملونتين الواسعتين المظللتين بأهداب طويلة .. ثابتتى النظرة ، تائهتين فى المكان الفسيح .. منطلقتين إلى أفق البحر الممتد ، وشفتيها اللتين تعلوهما ارتعاشة خفيفة ، قوامها النحيل الرشيق المحمول على قدمين خفيفى الحركة ، كل ذلك جعلنى أغيب اللحظة ، يختلط فيها الزمان بالمكان ، النهار بالليل .. البحر وهمس المحبين .. ومشاهد قريبة بعيدة . فجأة قفز إلى ذهنى حكايتها مع الشخص الذى أحبته وغدر بها والتى حكتها لى عبرالهاتف منذ تعرفى عليها .. استغرقتنى حكايتها الأن وسيطرت على خيالى ولاأدرى لذلك سببا ، كأنما تدق على رأسى حتى أتأكد من إحساسها نحوى .. انتفضت على وقع خطواتها الرشيقة فعدت للنظر إليها فإذا بى أجدها باسمة مستغربة موجهة لى كلاما حانيا يشبه الهمس تدعونى به للبدء بالكلام . عبثا لاأجد ماأقوله الأن ، فالكلمات مخنوقة فى حلقى .. مبعثرة داخلى .. مختلطة بأشياء كثيرة .. آثرت السكوت .. ربما ربطا لما يدور فى ذهنى بانشغالى بحكايتها ، أو ربما كان السكوت سمة لمن يريدون الاستمتاع بالبحر .. فنظرت صوبه ولهدير أمواجه ، ومعه تاهت كل المعانى التى طالما رتبتها بداخلى ولم أجد عبارة واحدة تهزنى أمام جمالها ودلالها ، إنه لايستطيع أحد فى هذا الجو الساحر أن يقول كلاما عاديا ، بل يجب أن ينتقى الكلام ويرتقى به ليقول شعرا .. وليس أى شعر .. بل أشعار نزار قبانى أو مرسى جميل عزيز ، ولايستطيع إنسان أن يتغنى بأى صوت .. ولكن يجب أن يكون صوت عبد الحليم حافظ أو فيروز.



تشاغلت بالنظر فى الساحة الواسعة تارة والبحر الممتد أمامى تارة أخرى ، أغمضت عينى وأخذت نفسا عميقا وهى تحدثنى عن الحياة فى الأسكندرية ، فتشابكت الصور مع حكاياتها ، وحكاياتى ، ويختلط ماأتخيله بما أحياه ، وماأحن إليه من هذه الأماكن التى طالما هفت نفسى إليها كثيرا وأنا فى القاهرة ، يكفينى فقط الإحساس بالسعادة التى أقدرها هذه اللحظة ، سعادة الجلوس أمام البحر الأن ، ومع من ؟! مع من تاقت نفسى إليها ، فبالأمس كنت أسمع صوتها المرتعش فقط فى الهاتف ، والأن هاهى أمامى بكل عنفوان شبابها وجمالها الأخاذ ، شغوف أن تتلقى أذنى نبراتها من الهواء الطلق أمامى .. هواء ممزوج بهدير الموج .. بنعومة الهواء .. بالنسمات الساحرة ، بصوتها الحقيقى .. نعم الحقيقى ، ياله من إحساس رائع أقدره وأستعذبه ، ويؤكده عطرها الياسمينى الذى إعتادت أن تتعطر به والذى يتسلل بداخلى فى نشوة غريبة ، تأججها طبيعتها القلقة ، عفويتها فى الكلام ، وحبها للسهر والمرح ، رغم أننى أحيانا أحس بأن كل هذا يتحول فجأة لهموم عميقة لاتبوح بها إلا للقليل ممن تثق بهم ، أنا كنت واحدا منهم ، كل ذلك جعلنى أقول لها مندفعا : إننى أيضا أشعر بحاجتى إليك وفى حاجة لأن أتوحد معك ، قالت : تفتكر ، عاودت التأكيد لكن بتردد : نعم ، قلتها وبداخلى خوف من مفاجأة الرد ، فطالما تعودت على عدم اكتراثها بل ومشاغاباتها وتهوين المشاعر فى كثير من الأحيان ، ربما مشاعرها التى أصبحت صادمة جعلتها تتصرف بهذا الشكل وتتبع هذا الأسلوب دون طبيعتها ، فقد حكت لى الكثير والكثيرعن حياتها العامة والخاصة ، قصتها تستحق التأمل ، فيها الكثير من المواجع ، أتذكر ماقالته لى بأنها تعيش وحيدة مع أبيها بعد وفاة أمها التى كانت تمثل لها كل شيئ فى حياتها ، أنطفأ المصباح الذى كانت تسير على هداه وينير لها الطريق ، بل كل حياتها ، أصبحت فريسة للوحدة التى كانت تقتلها وتنغص عليها حياتها ، وخاصة أن والدها دائم الانشغال عنها بعمله وانهماكه فيه ، وتواجده فى مكتبه معظم الوقت عمق ذلك الشعور لديها ، رغم أنها كانت تعمل معه وتدير له الشركة التى كان يمتلكها بكل حنكة واقتدار ، فهو صاحب أكبر شركة للتصدير والاستيراد بالاسكندرية ، ولكنها دائما ماكانت تشعر بالوحدة القاتلة تكتنف حياتها ، والفراغ المحكم جعلها ساهمة معظم الوقت .. سامدة المشاعر .. متبلدة الاحاسيس ، كثيرا ماكانت تلتفت حولها فلا تجد إنسانا تعيش من أجله ، توهب له حياتها ، أصبحت حياتها فارغة موحشة ، أغرقت حياتها فى ليل مظلم طويل ، واستهنت بكل شيئ .. لم يعد لحياتها معنى أو هدف تسعى إليه أو تعيش من أجله ، فحياتها تراها مجدبة مقفهرة ، كان أملها حياة مستقرة مع شخص يبادلها نفس مشاعرها وتحس معه بالحنين يصهرها صهرا حتى تستطيع أن تدفن رأسها المتعبة على صدره بارتياح ملتمسة الحنان والأمان التى تفتقدهما ، فأنغمست فى حياة لاهية ، بلاهدف ، بلا أمل ، حياة كلها سهر وأرق وأزمات نفسية ، وفى هذه الدوامة امتدت لها يد رجل ، وثقت به حد الثقة العمياء ، حيث كانت تنتظره وتحلم بمجيئه فى أية لحظة ، فأعطته كل حنانها ، ومنحته كل ثقتها وحياتها ، ولكن سرعان مالبث أن ظهر بوجهه الحقيقى من خلف القناع المزيف ، وصدمت فيه صدمة عنيفة ، وكانت هى تجربتها الوحيدة وكان هو الشخص الوحيد التى زعمت أنها أحبته أو تصورت هى ذلك ، فقلت مندفعا هذه المرة : أنا أعرف بالضبط  مالذى يدور بداخلك ، وأعرف أيضا أنك كنت تحبين هذا الشخص ، تأكدت من انطباعاتى عنك وماسمعته من بوح جوارحك ، فالحب لايمكن إنكاره ولايخفى على أحد ، والكراهية كذلك ، كان يجب أن تسألى نفسك وأنت الأن فى سن العقل والنضوج : هل حبك هذا كان حقيقيا أم نزوة ؟ وإن كان حبا حقيقيا هل سينفع هذا الرجل أم لا ؟ وإن كان ينفعه ، ينفعه فى ماذا وفى أى شيئ ؟ وأى رجل يستحق كل هذا الحب وهو يستعذب عذاب المرأة التى أحبته ويفرح كلما زحفت دموعها على خديها ويتيه زهوا بأنها تبكى من أجله ، وإن كان هو كذلك ، أتظنين أنه كان يستحق منك كل هذا الحب ! الرجل لايكره أبدا أن تحبه المرأة .. ولايكره أن تمسح وجهها على كتفيه وتذرف له الدموع لو غاب عنها ، لإنه لازال يتوهم بإمكانه أن يملك أى إمرأة فى العالم .. قلبها وكيانها وحبها حتى وإن لم يكن يحبها ، لكن المرأة غير ذلك ، حتى ولو أحبها الكثيرون ، فإنها تتمنى أن يتحولوا لديها إلى رجل واحد يحبها ، وهى من أجله تترك الملايين ، هذه طبائع وخصال مخلوقة فى المرأة والرجل قد تختلفين معى أو تتفقين ، ولكنها ثوابت مغروسة فى طبيعة الخلق ، ربما تجاربك فى الحياة قليلة ولاتعلمين من أمور الناس الكثير ، إننى أكاد أخزم عدم  فهمك لحبيبك جيدا ، بل هو الذى فهمك واستوعبك وعرفك أكثر ، و لوكان رجلا بمعنى الكلمة  لواجه نفسه بشجاعة وواجهك بصراحة ، ولراعى قيمة مشاعرك وأحاسيسك نحوه وقدرها حين تلاعب بها ، وليس أقل من أن يحترمها إن كان لايحبك ، أليس كذلك . فنظرت لى بشرود وكأن لسان حالها تدعونى للكف عن هذا الكلام لأنه يؤلمها ، ولكننى تجاهلت هذا الاحساس فى محاولة منى لأؤكد لنفسى أن قلبها ليس به أحد والدليل واضح ، وهو وجودها معى الأن . فاستطردت قائلا : وبالطبع أنت تذكرين كيف كان الحب بينكما ؟ الحب إن لم يكن صامدا للعواصف متحديا الظروف ومقاوما للأزمات ، فهو شيئ أخر غير الحب ، بل سميه ماشئت على أنها تجربة .. مجرد تجربة ، لاتوصدين بابك فى وجه الحياة بسببها ، ودع الأبواب المغلقة والنوافذ المغلقة ، أن تفتح مرة أخرى ولا تخشى على نفسك فتجارب الإنسان تقويه ، فك عنك قيودك التى وضعتيها حول نفسك وعلى عنقك بإحكام ، وعيشى للحياة ، فتجربتك الأولى ليست حبا ، وإنما وهم .. وهم كبير ، كما إسماه كاتبنا الكبير إحسان عبد القدوس ، ولايوجد حب من أول نظرة .. أو من أول تجربة .. أو من أول إنسان تلامسه عواطفنا  . أظن أن المسألة تتعلق بكرامتك ، مجرد إحساسك بجرح كرامتك ، هو كل معاناتك .. فكرامة الأنسان كالفلتر الذى يحمى من السموم ، وقرارك بطرده من حياتك .. هو قرار صائب وسليم ، لأنه حماية لحياتك من إحساس تظنيه حبا والحقيقة هى سموم .. وليست حبا ، وعليه يجب ألا تفكرين فيه ، وعيشى أيامك من جديد ، ولتعلمى أن الحب ماهو إلا تفاهم وتعود ، وأن تجدى رجلا تجعلين حياتك ضرورة له لهو أفضل لك ..وأن تملأين أذنه بصوتك .. وتملأين حياته بأنوثتك وحيويتك وتجعلينه يتعودك ويحبك ، وكذلك أنت أيضا ، تجدين نفسك فيه .. تجدين فيه عقلك وقلبك .. تجدين فيه يومك وغدك .. تجدين فيه دموعك وابتساماتك .. وترى فيه حياتك كلها.




أنتبهت بعد أن لاحظت عليها علامات الاستغراب المشوبة بعدم استجابتها للمتابعة ، وإذا بالوجه المشرق الذى يقبع أمامى ينعكس نوره فى عينى نارا تحرق جوارحها وتحيل كيانها إلى مايشبه الرماد ، ابتسمت بابتسامة بلهاء تحمل أحاسيس متباينة تائهة وأخذت تقلب شفتيها بامتعاض تحاول أن تصد هذا الزخم من كلامى .. متأففة غاضبة : عصام : لماذا تصر على تعذيبى ، فأدركت أننى فتحت عليها بابا من مواجعها لايمكن وصده ، فرحت أستميلها بتؤدة ، أقتربت منها أكثر وبحنان أعتذرت كى أخفف عنها أحزانها وأهدهد به ماأوقعته فوق رأسها ، وأننى لم أقصد مضايقتها البته فقلت لها : كم أتمنى أن تكونى سعيدة ، وعذرى الوحيد أننى لاأجيد المراوغة فى الكلام ولاأعرف المناورة فى الفهم ، ولاأجهد أحدا فى تفسير ماأقوله ، لأننى أعرف جيدا ماذا أقول وكيف أقول وأين أقوله ولمن ، حريصا شديد الحرص أن أكون واضحا فى الرأى .. بسيطا فى الإقناع .. مقاتلا فى اكتساب حب الناس . لمعت عيناها بالدموع وانطلق حزنها الدفين يترنم بنشيج عذب : عصام ، قلت لها بلهفة : نعم . كنت شغوفا مطرقا لسماعها ، كى أتحسس معنى أى كلمة ستقولها ، ردت ردا كسيرا : لا ولا حاجة . وكأنها كانت تريد أن تقول شيئا ، ثم عادت إدراجها وتنبهت فعدلت عما كانت تريد البوح به . نظرت فجأة فى ساعتها فى ملمح وإشارة لإنهاء اللقاء ، وكأنها حسمت أمرا .. لاكت فى فمها بعض الكلمات لم تنطقها .. تراجعت بعفوية .. مدت شعاعا من عينيها له بريق محتقن بالدموع يحمل ألف معنى ، لم أتبينها غير أنها استبقت على فيض المشاعر الخرساء . مالت ظنونى للإبتعاد وأخذ منحى أخر فى الكلام  فتناثر فى الحديث أشياء أخرى عن الفن والسياسة والعمل . عاودت هى استجابتها لأسئلتى مرة أخرى ، ربما استمتاعها بها وخاصة أنها خرجت عن نطاق دائرة مشاكلها العاطفية التى حركت مواجعها . قربتنى لها مرة أخرى بكلام منطلق عن الحياة بالأسكندرية ذات الطبيعة الخاصة : الميادين ، الشوارع ، الأسواق ، المولات ، الكافيهات والمقاهى ، حتى حركة المرور ، وأخيرا طريق الكورنيش الطويل . كلامها جاء متوافقا تماما مع ماكنت أحسه وأراه ، وأتخيل من حديثها مالا أعرفه وأصدقه ، متابعا لمخرج الكلمات من بين شفتيها الساحرتين ، وكانت هى تلاحظ ذلك ، فتبدو منها لمحة خجل خفيفة تستجيب لها مقلتيها بأهدابها الطويلة فتغمض عينيها برهة ، يكاد قلبى أن ينخلع منى وأفعل مثلها فأغمض عينى أنا أيضا ربما لأفقد إحساسى بالتركيز ، كى أتخلص من هذا الاحساس المنكشف أمامها ، فأنا لازلت كتابا مفتوح الصفحات ، يلقى بأحرفه وكلماته لمن يريد المعرفة .. ليتها تتبين وتحس بكل مايعترك بداخلى . تنبهت فجأة على صوتها الذى عاد : أنا دوشتك أليس كذلك . عاودت التأكيد على حلاوة وعذوبة الحديث معها حتى ولو تكلمت عن أى شيئ أو فى أى شيئ ، وخاصة أن كلامها عبارة عن سلسلة لانهاية لحلقاتها .. حكاية تتولد من حكايات ، عن الأصدقاء ، والحياة ، والحب ، والفن ، حتى السياسة .. كانت تتكلم فى كل شيئ .. فتجيد ، حاولت خلالها أن أنحى عن عينيها الجميلتين ستائر الأحزان ، وأن ترفع رأسها عاليا لاستنشاق الهواء من حولها فيملأ صدرها بل كل حياتها ، ليدعوها للحياة من جديد .




لاأدرى كيف امتدت بنا الساعات ونحن على هذا الحال ، تنبهت بعد أن طبع ماء البحر على شفتاى ندا مملحا ، وانتقلت ذرات الرمل إلى عينى جافة حارقة ملتصقة بجفونى ، فاستدرجنى البحر مرة أخرى للاسترسال والبوح ، ولكن هذه المرة كان الحديث عنى وعن قصص الحب التى طالما عشتها هنا : فى البحر وأعماقه وفى كل أوقاته ، وعلى الشاطئ وبطول الكورنيش من المعمورة حتى محطة الرمل .. تحت الشمس ، وفى الظل ، تحت الشماسى ، وعلى الرمل ، فوق الصخور ، وفى الصباح والمساء ، الاسكندرية بكل تاريخها وحضارتها وآثارها ، وميادينها و شوارعها وأذقتها وحواريها ، كنت استعذب الحديث عنها فى كل شيئ ، وخاصة حكاياتى الصيفية فى الحب التى ارتبطت بها ، وتحديدا بهذا المكان الذى نجلس فيه الأن ، فكثيرا مايجرفنى لذكريات الإسكندرية وأعود إليها فى لحظات ، كنت لاأبذل جهدا كبيرا فى الوصول إليها ، فسرعان ماتقفز أول صورة لإمرأة أحبتنى كثيرا ، صورة سامية الملتقطة فى الخاطر والمسجلة بعدسات عينى والمطبوعة فى وجدانى . كنت قد رأيتها منذ أعوام كثيرة ، ومع ذلك مازالت صورتها مستقرة فى مخيلتى كأننى أراها اليوم ، فهى صاحبة الخفقة الأولى ، أتذكر أول مرة رأيتها فيها أسرنى جمالها وتعلق بها قلبى ، كما تعلق بوجهها الجميل وقوامها الملفوف وصوتها الذى يقطر أنوثة بالغة وابتساماتها العذبة الصافية . قصتها طويلة وتفاصيلها دقيقة ، أقل ماكان يمكن أن يقال عنها أنها كانت قصة رومانسية خالصة ، كنت أشعر بسعادة بالغة عندما أراها ، كنت لاأسأم من طول الوقت وأنا أحوم فيه حول سور الفيلا التى كانت تسكن فيها كما تحوم الفراشة حول المصباح ، متطلعا لشرفتها المغلقة فى شوق ، أختلس إليها البصر ، حتى ترانى فتقبل على بتوهجها وتعطرها بأفخم العطور الباريسية  كما يقبل الربيع بعد برودة الشتاء القاسية ، أراها دائما متبسمة .. وكثيرا ماكانت تنصهر فى حبها ، مازالت أتذكر مسحة يدها على شعرى ، ودائما مااستوحى صوتها العذب فى شغف فأجده يتردد فى أعماقى حتى الأن . كان أقل مايوصف أنها كانت تحبنى حبا جنونيا .. حبا حانيا ، لم أصادف مثله فى حياتى ، كانت تفعل أى شيئ لمجرد إسعادى فقط ، ورغم ذلك توهمت بأن الفارق الطبقى والاجتماعى سيكونا حائلين دون اتمام سعادتنا ، فلم أقدر قيمة مافعلته أو ماكانت تفعله من أجلى ، وليتنى تمسكت بحبها الكبير ، ولكننى لاأستحقه . افترقنا وذهب كل منا فى اتجاه والغريب أننى لم أرها منذ ذلك الوقت . وأخذتنا الدنيا فى دواماتها وخضت حياتى مع الناس فى خضم الحياة وعرفت فتيات كثيرات وأحببت من السيدات ماأحببت ولكننى كنت أرى فى ملمح وجه كل واحدة منهن ملامح وجهها ، وفى رشاقة وجمال قوام كل امرأة منهن قوامها . استمتعت بالحب وسعدت به كثيرا ، وعانيت وشقيت من مرارته وتعذبت .. ذقت طعم النعيم والوصال واحترقت فى جحيم البعاد والهجر، ولكننى لم أنس سامية ، فمازلت أحوم حول بيتها كثيرا إلى الأن ويخيل لى وأنا اخطو عنده أن عطرها القوى النفاذ مازال يأتينى من الماضى ويلفح حياتى ، ويخيل لى وأنا اغادرالمكان اننى اتنفس عطرها الباريسى الذى لن انساه أبدا ولم تستطع أحداث حياتى العابثة المضطربة أن تمحو صورتها المختبئة  داخلى ، ورغم ذلك خشيت أن اتعقب اخبارها مخافة أن اسمع عنها مايحزننى ، كنت أريد أن تظل صورتها كما هى ، لم تكبر ولم تسقم أو تكون قد غادرت الدنيا ، أردت أن تبقى مجهولة لى وتظل على الذكرى، ففى المجهول راحة وفى الذكرى سعادة وأمل متجدد حتى ولو لم تعد ، أننا كثيرا مانخدع انفسنا لنهرب من عنف الحقيقة ومواجهتها ، ولكن للأسف حتى هذا لم أحظ به والصدفة وحدها قادتنى للحقيقة المرة ، عندما علمت من صديقى الدكتور أحمد أنه استأجر من أخيها  نفس الشقة التى كانت تمنى نفسها أننا سنعيش فيها ، فسألته عنها ، وأخبرنى دون أن يعرف قصتى معها ، أنها تزوجت وعاشت مابين لندن والقاهرة ، افتتحت محلا كبيرا مشهورا وراقيا للملابس النسائية المستوردة بروكسى فى مصر الجديدة ، وأنها أنجبت بنتا وولدا ، الولد أسمته عصام على أسمى ، وأنها انفصلت عن زوجها وعاشت غير سعيدة رغم ثرائها الفاحش ، اكتأبت وعاشت مريضة بحالة وجدانية فى شقة أخرى بمصر الجديدة ، ومنذ وقت قريب اختل توازنها وهى سارحة فى شرفة منزلها فسقطت من الدور الرابع وغادرت الحياة وهى لم تعرف أنها عاشت فى حياتى عمرا كاملا .



تذكرت أيضا حكاية الهام ورويت بعضا من قصتها مختصرا ، إلهام كانت أيضا قصة طويلة ، فهى كانت فتاة الجامعة المثالية  جاءت ضمن رحلة للمتفوقات إلى الأسكندرية ، وتقابلنا على غرار القصص السينمائية وعشنا معا قصة حب امتدت قرابة أربع سنوات أو يزيد ، لكن ليست بجمال الأسبوع الأول منها ، حيث جعلتنى أعيش أجمل حلم فى حياتى فيه .. أسبوع فى الأسكندرية أو فى الجنة، وتواترت الأيام وأصبحت هى فيما بعد مضيفة فى شركة الطيران السعودى ، ثم مديرة لمكتب رئيس الفرع الأقليمى للشركة بالقاهرة ، ثم زوجة له وهى حاليا مقيمة بالسعودية ، تقابلنا ذات مرة مصادفة بميدان التحرير بعد فترة حيث كانت فى إجازة قصيرة لها بالقاهرة ورأيت فى عينيها حزنا دفينا وقالت لى : إنها غير سعيدة رغم حياة الترف التى تعيشها ، تقضى وقتها كله شاردة العقل .. موجوعة القلب ، بل وأكدت لى أنها لازالت تحيا على ذكرى أسبوع مر بحياتها ومدركة أنه لم يعد ولم يمر مثله فى حياتها ، رغم أنها حاولت أن تنسى الماضى وجابت من أجل تحقيق ذلك أوروبا والولايات المتحدة بل وسافرت لكل الدنيا كى تنسى ولم تفلح . ثم مدت يدها واحتضنت يدى واستبقتها لحظات وقالت لى : هل تتذكر هذه الدبلة الفضية التى اشتريتها لى من المنشية وأنا معك أم نسيتها ، إننى لم أخلعها منذ أن وضعتها بأناملك فى يدى حينما كنا نجلس على " بئر مسعود " ، إنها لحظات جميلة عشناها معا ، استرقناها من الزمن ، ولم يعد لى أروع ولاأجمل منها فى حياتى ، إننى لازلت احفظها فى يدى كجوهرة مكنونة وسأحتفظ بها ماحييت ، فهى أغلى ماأملك وأجمل وأفخم ماقُدم لى طوال عمرى وستبقى هكذا عهدا ورباطا لاأستطيع التحلل منه ، لأنى أراها رباطنا المقدس وسأظل وفية لهذا العهد رغم انقضائه وزوال أسبابه المنطقية ، ولكن لاشيئ يقوى على سلطان الحب ، فأنا أحببتك من كل قلبى ولم أعرف بعد الخلاص منه أو دفعه عنى .. وصدقنى أننى حاولت مرات ومرات نسيانه وذهبت لأخر الدنيا وفشلت . ثم فكرتنى مجددا بأننى كنت السبب فى تعاستها وأننى حرمتها السعادة التى حلمت بها ، فكم من أوقات كثيرة مرت عليها كان يجرفها الحنين بالشوق ، وكيف كانت تتمنى بل وتستجدى القدر أن يجمعنا مرة أخرى حتى تشعر بهنأة سعادة وبأنس الحبيب كما كنا نلتقى ، ثم راحت تؤكد على أنه حظها عثر لم تنل من حبها سوى عذاباته ، ولكنها ستبقى حافظة لعهده وسيظل عندها أفضل بكثير من كل كنوز الدنيا ، ثم عاتبتنى مجددا بزفرة ضيق مفضى لآهة ألم لو أنى أمهلتها الفرصة ولم أتخل عنها ، فالحب الصادق لايأتى سوى مرة واحدة فى الحياة وإن مضى لايعود ، وذكرتنى كيف كانت تقرأنى بتوارد خاطرها ، وتفهمنى من نظرة عينى ، وتتمنانى كل لحظة بلهفة واشتياق أول لحظة تقابلنا فيها ، وأنها كانت على استعداد أن تخلص لى حد الموت . تماسكت و لم أشأ أن أقول لها إلا كلاما صامتا : إننى لم أتخل عنك ، بل قلبى هو الذى تخلى عنى ، وإننى لم أقصد أن أحطم قلبك ، ولو تحطم قلبك فتأكدى أن قلبى تحطم معه وأن العذاب الذى عشتى فيه لايقاس بالعذاب الذى عشته من بعدك وسأظل أعيشه طول عمرى ، إننى لاأبغى شيئا سوى سعادتك حتى ولو كانت هذه السعادة مع رجل أخر ولو كنت أنانيا لكنت طلبت منك الانتظار ، ولخيبت رجاءك وانصطدم الحب بقلة الحيلة وامكاناتى الزهيدة التى تحُول دون سعادتك ولتحول الحب الكبير إلى شيئ أخر ، فالذى يحب هو الذى يعطى والذى يحب أكثر هو الذى يجزل العطاء ، فلم أجد فى عطائى أكثر من حد التضحية .. آثرتك على نفسى ، وحياتك عن سعادتى ، وراحة قلبك كان ثمنها شقائى ، فتركت لك الطريق وابتعدت ، وذهبت لطريق أخر طويل تحف جوانبه الأشواك ، كان لى أن أمضى فيه وحدى .. وقتئذ لم أكن جديرا بك ولابحبك . مضت وغاصت بين طوفان البشر فى ميدان التحرير ..غابت بعد أن أسقطت دمعة من عينيها  وهى تغادرنى ، وخيل لى وهى تبتعد أنها وسط ضباب كثيف وأننى لم أعد أراها . ومضيت دون أن التفت إليها حتى لاأترك ورائى نهرا من الدموع ، وانتهت قصة امتدت أربع سنوات فيها رهبة البحر ووحشة الصحراء وفيها الحب والتضحية وفيها أيضا العذاب والفراق ، حتى تحولت الحقيقة لأحلام ، والأحلام دائما تجعلنا ملوكا وعندما نصحو نجد أنفسنا متسولين .. نتسول الكلمة والهمسة والذكريات من دواخلنا .




 وتذكرت حكاية زميلتى فى الجامعة سوزان ، التى كنت أعرفها فى الجامعة معرفة سطحية ولكن تعمقت علاقتنا هنا فى الأسكندرية بعد أن تصادف وجودها فى الشقة المقابلة للشقة التى كنا نقيم فيها وكان لقصتى معها مذاق خاص وعالم خاص ، وتذكرت حكاية نورهان طبيبة التحاليل التى كانت شديدة الحرص على صحتى تعرفت عليها فى شاطئ ميامى كانت مثل النسمة الشاردة فى الليالى الصيفية القائظة ، وكانت ترجونى دائما وفى إلحاح بأن تعمل لى الفحوصات اللازمة من آن لأخر لتطمئن عن معدتى التى كنت أشكو دائما منها .. كانت تحبنى وكانت أكثرهن خوفا على . وتذكرت أيضا حكاية عزة طبيبة الأمراض النفسية كانت طويلة مثلى .. قوية البنيان .. قوية الشخصية ، وكانت هكذا فى الحب أيضا ، تعرفت عليها فى رحلة ، كنت أحس بفرض قيودها الشديدة وعانيت كثيرا من غيرتها الصارمة ، كانت تعاملنى تماما كما تعامل مرضاها ، أحس بأنها تكبلنى بقيود لاأول لها ولا أخر . قصص الحب الصيفية كثيرة منها ماهو عميق ومنها ماهو عابر ، ومنها ماأتذكره جيدا وبقيت بصماتها محفورة فى الذاكرة ، ومنها مافترت وتلاشت واعتراها الزمن وطواها النسيان . كانت تستدرجنى من حكاية لحكاية بإنصات شديد .. تستدرجنى كما يستدرج هذا الشاطئ أمواج البحر ، وينهك قواه ، فإذا هى ضعيفة مستسلمة ، لقد تكلمت معها بكلام لاأدرى كيف بحت به ، ولكنه لم يكن أبلغ من الكلام الذى لم يبلغ فاهى بعد عندما كنا نصمت .. وماكان أكثر لحظات الصمت التى كانت تتخلل الحديث الطويل ، نظراتها لى جعلتنى أظن أنه استوعبته ، تجاربى اللذيذة – كما وصفتها – ربما أكدت هذا الشعور ، ولكنه فى النهاية مجرد شعور أخاذ سلبنى عقلى ، وجعلنى أرى مالاأتصوره ، إننى لم أتصور أن أرى عطورا مضيئة .. ولا ضحكات عاطرة ، ولم أتصور كيف يمتزج الضوء بالهمس بالعطر بالخوف بالأمل بالموج ، كل هذا أحسسته ولاأعرف أين مصدره ولا من أين أتى ، ولكنه تزاحم فى نفسى .. وجثم على قلبى وعقلى ووجدانى ، أنه أشبه بالحلم ، لم يوقظنى منه غير مداعبة يداها لخصلات شعرى هامسة : أنت رحت لفين ؟ . الجديد أنها وضعت أناملها على رأسى هنا افرجت عن ابتسامة تملؤها غبطة وامتنان ، وكأنى أريد أن ادفع عن نفسى الإحساس ببعد المسافات النفسية بيننا ، ذلك ماكنت أعانيه منذ لحظات فقلت لها : لاشيئ ، إننى كنت معك ، ولم تدعنى أكمل فقاطعتنى : معايا ولامع ذكرياتك وحكاياتك النسائية التى لاتنتهى ، فانتبهت لمقصد ماتريد . سكت ولم أعقب ، ولكنى حاولت الدلوف إلى حديث أخر غير الذى كنا نتحدث فيه : تعرفى أن الأنسان يجب أن يعيش ولو ليوم واحد كل سنة على شاطئ البحر، فأنا فى هذا المكان لاأرى من الناس إلا من أريد ولاأسمع إلا ماأريد ولاأعيش إلا كما أريد .. إننى هنا اتعامل مع نفسى بمنتهى الحرية .. إنها الحرية بعينها ، والجميل هنا أنه لايوجد أحد يملك شيئا ، ولن يملك أحد شيئا ، ولن يبقى لأحد شيئ .. هنا كلنا ضيوف .. عابرون .. دائما ماأرى رحلتى هنا خفيفة على الدنيا وعلى الناس .. اندفع فيها بقوة الحب ولو ليوم واحد فى العام .. أو فى العمر .. ليتنى أستطيع أن أفعلها الأن .



ومر الوقت مسرعا دون الإفاضة فى الحديث أكثر من هذا رغم أحساسى بميلها الشديد للتجاوب ولكنها مازالت ترمقنى بحذر، تحرص على أن تظل المسافة بينى وبينها واسعة ، رغم تأكدها ماقرأته فى عينى من إعجاب شديد وشغف بها كلما التقت بعيناها. لاشك أننى كنت واضحا فيما أتمناه .. من إحساس جعلنى فى حالة زهو ومنذ أن التقيت بوجهها وقوامها احسست بأن هذا النوع من الجمال الذى يمكن أن أضعف أمامه ، وبدأت أقاوم اشتهائى لها ومقاومتى دفعتنى بالأمس الى التفكير بنوع من الغل أراد قلبى أن يفرضه عليها وفكرت فى اضطهادها وفرض حبى ولو بالقسوة . هى الأن أمامى صامتة تسند رأسها على كفها  عينيها متعلقتين بى فى استسلام ورجاء كأنها عاشقة تستجدى الرجل الذى تحلم به . أصبحت لاتغضب من كلامى ولاترد عليه ، إنما دائما مستسلمة لعينيها المتعلقتين بى ، كنت على وشك أن أقص عليها مايعترى بداخلى بصراحة ووضوح ولكنها ببراعة متناهية غيرت مجرى الحديث ربما خوفا من تكرار تجربة لاتريد منها  معاودة الندم مرة أخرى وتضيع حياتها معها ، أو خوفها من المجهول الذى لاتعرفه ولم تعرفه . وحانت اللحظة التى كنت أخشاها منذ أن التقينا ، أخذنا الطريق المعاكس للبحر وبعدنا عنه رويدا رويدا ، وتسللنا إلى داخل الأسكندرية ، معلنا نهاية ليلة صيفية جميلة ربما لاأحيا مثلها على الأقل مدة عام ، تقدمت خطوات أقدامنا ثقيلة مليئة بالرطوبة . بلغنا الرصيف ورحت أبحث بعينى عن سيارة تاكسى تقلنا من هنا ، فهى لم تأت اليوم بسيارتها . ودعنا الشاطئ وكأننا نهم للخروج من الجنة ، ولكن إلى أين ، لاأدرى ؟! ولكننى أدركت بخبرة الأيام أن هناك جدارا كبيرا .. سميكا وعاليا ، لن نتستطيع تجاوزه ولاتسلقه ، وأيقنت أننا عشنا لحظات استرقناها من الزمن ومن المكان الذى لم ينكر علينا حبه لنا . استقلينا السيارة  وبعض دقائق مرت مسرعة شعرت خلالها بدفء جسدها الملاصق لجسدى المرتعش ، مما دفعنى أن أضع يدى على يديها ليتعانقا من جديد ، وحدث العناق ليدانا لأول مرة فى هذا اللقاء .. فكانت اللهفة .. لهفة اللقاء .. ولهفة الوداع ، وصلنا لبيتها . ودعتها وفى عيونى دمعة البعاد ، وفى عيونها الكلام الكثير الذى لايعرفه غيرها .. والبحر والسماء والهواء ، ومرت لحظات أخرى ونحن واقفون فى صمت ، تحدثت خلالها مع نفسى كثيرا .. سطرت لها بداخلى رسالة لم أرسلها إلا لنفسى .. نعم قلت لها فيها صراحة عن عذابى .. عن قلقى وهمومى .. عن حبى الذى لاأعرف له مصيرا .. لكن كل ماأعرفه أننى أحببتها ، وأريد أن أعرف معنى إشارة التجاوب فى عينيها .. أريد أن أسمع منها جديدا غير الذى سمعت .. أريد أن أتحسس ذلك الشيئ الكامن الذى جئت من أجله من القاهرة .. أريد أن أعرف ذلك الشيئ الذى سيأكل قلبى ويسرق نومى ويسلب عقلى .. وإذا كان فى قلبها مثله لماذا اتعذب أنا .. لماذا أبكى أنا .. لماذا أخاف أنا .. ولماذا سأظل هكذا فى قلق دائم عليها ، ليت فمها يُفتح الأن ويقول ولو كلمة واحدة ، أو حتى تصرخ فى وجهى .. ليتها تفعل أى شيئ ، وأه لو فعلت .. لكنت طرت فى السماء ، ولمكثت على شطآن الأسكندرية أيام وليالى .. لكنت قلت للدنيا كلها إننى أحب حبا صادقا كصفاء عينيها وكدقات قلبى .. حبا يستحق كل عذاب ، نظرت إليها وأنا أودعها أحسست وتيقنت أن ثمة أشياء فى حياتها لازالت تعانى منها أشد المعاناة ، لاأعرفها وليس بمقدورى أن أعرفها .. أشياء من المؤكد أنها مزعجة لاحظتها توا فى اضطراب أنفاسها وارتعاش يداها ، وحينما  استدارت كانت مكفهرة الوجه  تتراقص ظلال أهدابها الطويلة على خدين كأنهما جذوة تتقد ..  خطواتها متعثرة عند صعودها أولى درجات السلم ، مدت أناملها المرتعشة إلى عينيها الجميلتين وجففت بعض الدموع .. شعرت بما يشبه الضيق يطبق على أنفاسها ويكاد يخنقها ، تهت فى هذه اللحظة ولكن لم يكن باستطاعتى أن أفعل لها شيئا أطيب بها خاطرها .. لم يكن بمقدورى فى هذه اللحظة الفارقة التى ستفصل بيننا سوى أن استوقفها وأمد إليها يدى لتعانق يديها الحانيتين للمرة الثانية وربما الأخيرة ، ونظرة طويلة صامتة لم نتحدث فيها ولكن بها كل المعانى التى طالما تمنينا أن نتكلم فيها معا و لم يحدث ، عيناها فى عينى تملكتنا الدموع ، تحدثت جوارحنا ، احتضنتها بأهدابى الجافة المتحجرة ، تسللت يدى من يدها بصعوبة بالغة شاقة على نفسى . وذهب كل منا فى اتجاه معاكس للأخر .. هى لتصعد درجات سلم منزلها التى سارت إليها ببطء ملتفتة الخطوات ، وأنا تلفت بعد أن سرت خطوة واحدة ثم تسمرت قدماى فى مكانها لحظات أنظر إليها كى ارتشف النظرة الأخيرة وهى تبعد عن عينى ، شيئا فشيئ ، ولاأدرى لماذا قفزت فى ذهنى الأن كلمات الشاعر الكبير كامل الشناوى أرددها من أعماقى الحزينة : " وسرت وحدى شريدا .. محطم الخطوات .. تهزنى أنفاسى .. تخيفنى لفتاتى .. كهارب ليس يدرى من أين أو أين يمضى " . تلاشى وجودها من أمامى ، لحظات صعبة تعمق بداخلى صوت عبد الحليم مرة أخرى بكلمات الشاعر المخضرم عبد الرحمن الأبنودى الذى راح يحدث فيها قلبه بعد بعاد الأحباب : " مشيت على الأشواك .. وجيت لأحبابك .. لاعرفوا إيه وداك .. ولاعرفوا إيه جابك .. رميت نفسك فى حضن .. سقاك الحضن حزن .. حتى فى أحضان الحبايب شوك .. شوك ياقلبى " . بعدها اتخذت خطواتى السير فى الاتجاه المعاكس للاسكندرية كلها بعيون غطتها الدموع الملتهبة لأبدأ طريق العودة إلى القاهرة ، فأنا لازلت على سفر طويل .. طويل .



مع خالص تحياتى : عصـــام


القاهرة فى أكتوبر 2013


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق